متعة الكتابة ومحنتها

ثقافة 2020/08/23
...

عبدالزهرة زكي
حدثت إصابة ولدي حيدر بالوباء في أيام كنت أخلد أثناءها للراحة بعد أسابيع من عناء التفكير والمتابعة والكتابة اليومية في كتاب (حياة تتهدد). كان الانشغال بكتاب (حياة تتهدد) محاولة مني، وأتوقع من الدكتور لؤي حمزة أيضاً، لتفادي الانسحاق، نفسياً في الأقل، بالوباء الذي هز العالم كله.
ربما فكر كثيرٌ من البشر بحلولهم الخاصة لمواجهة هذا الظرف أو للتعايش معه، وكانت الكتابة بالنسبة لي، أو لكلينا، الوسيلة الأكثر عملية والأشد قرباً لممكناتنا في التعامل بإيجابية مع ظرف الخطر. ما الذي يمكن أن يفعله شخص عاش حياته من أجل الكتابة سوى أن يستعين بها في هكذا ظرف، وما الكتابة بالنسبة لهذا الشخص ما لم تُعنه وتحضره في هذه ا
لمحنة؟
الكتابة متعة حتى باتت هذه المتعة هدفاً مباشراً مما تأتي به الكتابة من محصول، وما الموضوعات التي تخرج بها الكتابة إلا وسيلة لبلوغ هذه المتعة حتى وإن كان الموضوع بالطبيعة السوداء المكفهرة التي ما زال عليها ظرف الوباء، هل يكفي هذا لتسويغ الكلام عن متعةٍ في مثل هذا الموقف؟. 
كلّ إنسان يجد صورته وطبيعته بما يكتب من موضوعات وبالصيغ التي يقدّم بها هذه الموضوعات. الكتابة تكون أكثر متعة لمؤلفها كلما ظفرت هي بخصال تحيلها أكثر لصورة الكاتب كما هي في طبيعتها. لكن الكتابة عن الحياة في كهف كورونا الكوني لم تشأ، بالنسبة لكلينا أنا ولؤي، أن تظل مجرد نزهة واستمتاع بالسياحة الكتابية في حياة عُدمت فيها السياحة بانعدام حرية الحركة والتنقل والاندماج بآخرين جدد وبأماكن جديدة وحيوات مختلفة، فالكتابة، وأكرر هذا، تظل متعة حتى وإن كانت بالتراجيديا التي باتت عليها الحياة الإنسانية المهدَّدة بكل مفاصلها وقد تقيدت. في مثل هذا الظرف الإنساني الوجودي ستكون الكتابة ذاتها محنة، فلكل متعة ثمنها؛ أن تكتب فهذا يعني أن تقلّب جمرات، أن تزيح طبقات من رماد عن الجمر، أن تصادف لهباً يتصاعد حيناً ويخبو حيناً، ولا تدري متى يطولك شرار هذا اللهب، وأن تكتب في هكذا ظرف، فستحاول أن تعمل على أن تعينك عيناك وأنفاسك في تحمّل الدخان المنبعث من لهب الكتابة قبل أن تتسمم فيه، وما أكثر لهب الكتابة ودخانها!
في الكتابة غالباً ما يمضي المرء، ككاتب، في أنفاق وبرارٍ وفضاءات، حتى وهو لم يخطط لذلك. ومن متع الكتابة التي يمكن للكاتب مصادفتها في أثناء هذه السياحة الباطنية أن يرى فيكتشف، وكان العمل في كتاب (حياة تتهدد) محاولة للرؤية بوضوح كافٍ؛ رؤية ما آل إليه حال الحياة البشرية على الكوكب، رؤية مسؤوليتنا كبشر عن هذا المصير. لقد بقينا طيلة التاريخ نفتخر بكوننا، كبشر، أسياد هذه الأرض، وأن سيادتنا متأتية من امتيازنا العقلي عما سوانا من أحياء. لكن هذا الامتياز يتحمل جانباً أساسياً من مسؤولية بلوغنا المصير الذي نحن فيه؛ مليارات من البشر يحاصرها فيروس فتلوذ منه بكهف كوني، وحيث منازلنا ليست إلا حجرات ضيقة ومغلقة علينا في دهاليز الكهف حتى مع تجاوز حال الحظر، أستعيد هنا التعبير القرآني المناسب، مجازاً، لحال الناس في المدن المغلقة: "فأَصبحوا في ديارِهم جاثمين".
تترتب على الامتياز العقلي البشري مسؤوليات ازاء الحياة والكائنات التي تشاركنا الحياة، وازاء الطبيعة. ما أكثر ما تخلينا عن هذه المسؤوليات، وذلك كلما ظهرنا بسلوك المستعمرين على ظهر الكوكب، وذلك كلما كنا في الطبيعة العامة التي لا تكون ملكية شخصية. تغيب الصلة الحميمة ما بيننا وبين الطبيعة، نحن نحب الطبيعة بقدر ما نتملكها، بقدر ما نأخذ منها، لم نتصرف يوماً كسكان مواطنين في تعاملنا مع الطبيعة والأحياء، لقد بقينا دائماً، عبر تاريخنا، تحكمنا عقلية الاستحواذ الاستعماري، وهي عقلية تنشغل بالأخذ، الأخذ دائماً، لقد بقينا نأخذ من الطبيعة فننقص في توازناتها، ونشوّه في نظامها، وندمّر سلامها، وكنا بهذا نشوّه مستقبلنا على الأرض ونقوض فرص عيش آمن وسليم عليها.
لم يكن ممكناً التفكير بالوباء من دون المرور بالبيئة والطبيعة وما تعرضتا له من اعتداءات مستمرة. لكن ظرفنا العراقي هو الآخر أكثر مدعاةً للتفكير به وبصلته المباشرة وغير المباشرة بقدرات المؤسسات والمجتمع على مواجهة تحديات الوباء. هكذا تلازمت السياسة (بفسادها وفوضاها) والصحة (بوبائها) والبيئة (بدمارها) في الكتاب خلال الأيام الأربعين لتأليفه وتحريره، وكان هذا التلازم الثلاثي؛ السياسي، الصحي، البيئي، منظوراً إليه من الموقع الأدبي الثقافي للمؤلفَين، وهو موقع إنساني قبل كل شيء.
قبل إصابة حيدر بأسبوع كان الكتاب قد بلغ المطبعة، وكان هذا أسبوعاً من الراحة بعد أيام المواظبة على الكتابة المستمرة، لقد قُدّر لهذه الراحة أن تكون عابرة إذ انطفأت حالما واجهت الأسرة محنة إصابة حيدر. لقد كنت في أثناء محاوراتي مع لؤي حمزة أفكر وأكتب عن مأساة الحياة في كهف الوباء، لكن ها أنا، أجدني بشكل مباشر، في ظلام هذا الكهف.
في الساعات الأولى لإعلان إصابة حيدر بقيت الهواتف تتلقى اتصالات، وكان المنزل يستقبل أكثر من طبيب وممرض جاؤوا، بكرم استثنائي، متبرعين لمتابعة حالة حيدر، كان هذا كرماً لا يُنسى، وسيظلّ مما يضاعف الشعور بالمسؤولية ازاء محبة الناس، لا أنسى اتصالاتٍ من شبان لا أعرفهم، كانوا يعرضون فيها مساعدات مختلفة، وكان من بينها توفير أجهزة أوكسجين، سيتعذر ذكر الأسماء جميعها، أحياناً، والحمد لله، تطوّق المرءَ محبةٌ هي أكبر من أن يُحاط بها. لقد كان العشرات يومياً من أصدقاء حيدر والأسرة، من داخل البلد وخارجه، في اتصال عبر الموبايل ظل مستمراً طيلة أيام. 
هنالك مَن هو أحوج لعناية المستشفيات الحكومية، ما كان ينبغي إشغال مؤسسة صحية بحالة مثل حالة حيدر وقد قدّر أطباء وعاملون بمختبرات أهلية أنها يمكن أن تظل مسيطراً عليها وأن يشفى منها وهو داخل المنزل إذا ما تقيد بالنصائح الطبية وواظب على قوة تحمله النفسي وتقيّد القريبون منه بإجراءات الوقاية المعروفة. وهذا ما حصل فعلاً؛ فبعد أيام من إصابة حيدر، أجرينا فحوصات الكشف عن احتمال الإصابة بالفيروس، وكنا بحدود خمسة أشخاص بقينا قريبين منه وبتواصل مستمر معه، كان بيننا شابان من الأسرة تكفلا بدور الممرض المنفذ لتوصيات الأطباء، والمراقب لدرجة حرارته ونسبة الأوكسجين في دمه، ومتابعة التزامه بأخذ الأدوية الموصوفة له من الأطباء، وهو دور شجاع جعل الشابين بتماس جسدي مباشر مع حيدر، كانت نتائج تحليلات الخمسة مطمئنة مع استثناء لافت في تحليل واحد، ذلك هو التحليل الذي أُجري لأم حيدر، والذي أفاد بتعرضها للفيروس إنما قبل إصابة حيدر، وباجتيازها الإصابة بسلام ومن دون أن تشعر بذلك.بعد 15 يوماً كانت النهاية سعيدةً، وقد خُتمت أخيراً بمستشفى حكومي، في مستشفى الكندي، حيث أُجريت التحاليل التي أفادت بشفاء حيدر تماماً.
فعلاً كانت مفارقة أن تكون ليلة ميلاد حيدر هي الليلة التي كشفت عن إصابته بالوباء، كما ذكرت هذا في الجزء الأول من المقال. كان يجب أن أقلق جراء هذا التزامن وهذه المصادفة، وكان يجب فعلاً أن أظل صامتاً ومتكتماً عليها. كان الوضع كله صادماً، وإذ ختم بهذه النهاية السعيدة فقد فكرت بالحياة التي يمكن أن تتجدد أحياناً بالصدمات.
لقد توقفت خلال تلك الأيام عن الكتابة والقراءة، توقفت عن كتابة هذا المقال الأسبوعي لما يقرب من الشهر، إذ عدت في نهاياته إلى القراءة قبل الكتابة التي أعود إليها الآن مع هذا المقال، وهو مقال في الحياة لا يريد النأي كثيراً عن الثقافة وقد شكلت قوام حياتنا.