محمّد صابر عبيد
توصف فعاليّة الصيد بأنّها من الأنشطة الإنسانيّة البدهيّة التي كانت في بداية عهد البشر بالحياة الوسيلةَ الأبرز لاستمرارية العيش وإدامته، فهي أقدم مهنة في التاريخ عرفها البشر ولولاها لما تمكّن الإنسان البدائيّ من مواصلة الحياة، لأنّه لا سبيل آنذاك إلى الطعام من دون صيدِ ما يتاح لذلك الإنسان وتحويله إلى طاقة، وبمرور الزمن حين أدرك الإنسان طريق الحضارة ونشأت الزراعة والصناعة والتجارة
تحوّلت فكرة الصيد إلى نوع من المتعة، على الرغم من أنّه ظلّ ميداناً رحباً للكسب بدوافع ماديّة كثيرة ومتنوّعة وبحسب الطريدة المستهدَفة، فثّمة طرائد لها فوائد ماديّة عظيمة يسعى الصيّاد من وراء صيدها إلى الإفادة منها قدر ما يستطيع، فمن الصيد ما يتحوّل إلى مهنة يبتغي صاحبُها الكسبَ الماديّ لتحقيق العيش المطلوب، ومنه ما يندرج في إطار المتعة لدى هواة الصيد من الميسورين، غالباً الباحثين عن فرص لتزجية وقتهم، وراحة بالهم، والاستمتاع بهذه اللعبة النوعيّة.
يمكن وصف النوع الثاني من الصيد بأنّه صيدٌ للمتعة، وهذا الصيد المُسخّرُ لأجل المتعة فحسب هو أطرف أنواع الصيد وأكثرها إثارة، ويندرج في هذا السياق صيّادو النصوص الإبداعيّة من الأدباء والفنانين على اختلاف أنواعهم، فهم كمن يحاول “اصطياد دمية” لا تدرّ حليباً ولا تعطي لحماً ولا تصلح لتجارةٍ أو مقايضةٍ، لأنّها ليست مادّة ملموسة بوسع الصيّاد الحصول على فائدة منها، وقد يمضي هذا الصيّاد عمره كلّه في اصطيادها من دون أن يفلح على الرغم من أنّه لا ينفكّ يحاول بلذّة ومتعةٍ ورغبةٍ جارفةٍ لا نظير لها، فمحاولة اصطياد الوهم إنّما هي أندر حالات الصيد وأكثرها مشقّة وسحراً وغموضاً ولا جدوى، لأنّ الطريدة غامضة وغائبة وغير معلومة تماماً وعلى الصيّاد أن يبحث عن أبرة ضائعة في كومة من الدريس “التبن».
اصطياد النصوص يشبه اصطياد دمية لا غاية من وراء فعاليتها سوى تنفيذ رؤية تخييليّة لا تدرّ مالاً ولا حليباً ولا لحماً ولا أيّة فائدة ماديّة أخرى، بل تقصّد اصطياد الوهم ممثلاً بهذه الدمية التي لا تعرف بطبيعة الحال أنّها طريدة وثمّة من يسعى لاصطيادها، فليست الدمية سوى وهمٍ يطارده العشّاق في الأودية والسهول والجبال والذاكرة والحلم والفضاء بلا طائل، والدمية عصيّة على الاصطياد، وفي حالةِ تحدٍّ مطلقٍ يحرج الصيّاد ويدفعه نحو مزيدٍ من المحاولة بطاقة صبرٍ عنيدٍ لا تنفد، إذ يبقى الصيّاد يحاول بلا كلل وتبقى الطريدة عصيّة على الاصطياد، وتبقى الممارسة حاضرة في فضاء اللعب لا تتوانى عن إنتاج مزيد من المُتَع التي تحتفظ لصاحبها بالطاقة القصوى من الاستمراريّة.
تتحسّس الطرائد عادة مصادر الخطر حين يحاول الصيادون التقرّب من محيطها قدر الإمكان لإنجاح الممارسة، إذ ينبغي أن يكون الهدف قريباً كي يسهل اصطياده، لكنّ الطريدة تفعّل طاقاتها الحسيّة ولاسيّما البصريّة والسمعيّة للتعرّف على وجود خطر يتهدّدها من صياد قريب يسعى إلى قتلها، فتحتاط على هذا النحو وتحاول ما وسعها ذلك تفادي وقوعها في المصيدة، غير أنّ الدمية بوصفها طريدة لصيّادي الوهم تفتقر لإمكانيّة تحسّس وجود الصيّاد قريباً من مساحتها، وهي غير معنيّة تماماً بفعاليّة الصيد ولا تمنع الصياد من ممارسة هوايته، بل على العكس تبقى صامدة أمام رغبة الصيّاد وتعطيه الفرصة الكافية للتسديد عليها وإصابتها، فهي صيدٌ سهلٌ يشبه صيدَ طريدةٍ ماكثةٍ في
حظيرة.
الأصل المحوريّ في الموضوع هو الفكرة، فكرة الصيد، وما تنطوي عليه من أبعاد وأهداف وقيم تتكرّس عن طريق الممارسة المستمرّة، وتقود إلى نتائج ذات طبيعة معيّنة وواضحة، فصيّادو الدمى تقتصر ممارستهم في هذا النوع من النشاط الإنسانيّ على “متعة الصيد الخالصة”، التي تحتلّ المسافة بين “نيّة الصيد” والمسافة التي تفصل الصيّاد عن الطريدة، ولا علاقة لها بنتائج عملية الصيد من حيث إصابة الهدف والنتائج المرجوّة من وراء ذلك فيما بعد، بمعنى أنّ الفعاليّة تنحصر في تنفيذ الرغبة داخل إجرائيّة الصيد وإطلاق منظومة الأحاسيس المرافقة لها، ومن هنا تنشأ الصلة الوثيقة بين صيد الدمية وصيد النصّ الأدبيّ أو اللوحة التشكيليّة أو المقطوعة الموسيقيّة أو أيّ مُنتَج إبداعيّ آخر.
النصّ الأدبيّ، اللوحة، المقطوعة الموسيقيّة، القطعة النحتيّة، أو غيرها من أجناس الابداع وأنواعه حين تكون هدفاً للمبدع فهي على نحوٍ ما طريدة يريد اصطيادها، وثمّة وسائل كثيرة ومتنوّعة يستعملها في تنفيذ عمليّة الصيد تخضع لطبيعة تكوينه وموهبته وإعداده وحساسيّته، بمعنى أنّ طريقة الصيد التي ينتخبها للحصول على طريدته الإبداعيّة تتوقّف على جملة عوامل وأسباب وقضايا، لا تذهب في النهاية نحو فكرة “الفائدة” بمعناها الماديّ الصرف، بل تتحرّك على وفق رغبة ذاتيّة مجرّدة بتحويل الإحساس والتخييل والرؤية الخلاقة إلى عمل أدبيّ غير ملموس، أي أنّه لا يؤكل ولا يُشرَب وليس له إفرازات ماديّة ملموسة يمكن استثمارها في صناعة أو بيع أو شراء.
مع أنّ اللوحة أو المنحوتة أو القطعة الموسيقيّة أو غيرها قد تدرّ أحياناً أرباحاً خياليّة على أصحابها، غير أنّ فكرة الاستثمار التجاريّ تتأتى “فيما بعد” وليس في أثناء عملية الصيد، وهي عملياً ليست من بين الأهداف المركزيّة، التي تصاحب فعاليّة الصيد لكنّها قد تكون تحصيل حاصل، بفعل دخول أجندات أخرى “تسويقيّة” يبرع فيها نوع آخر من الصيادين “الوسطاء” يحوّلون اللوحة أو المنحوتة أو أي منتج إبداعي آخر إلى سلعة قابلة للبيع والمساومة، فتصبح عندها في سوق المزاد طريدة “مفيدة” ترتدّ إلى فكرة الصيد الأولى لتكون قابلة للأكل أو التحوّل إلى حاجات ثمينة بعد إعادة الإنتاج.
تبقى النصوص واللوحات والقطع الموسيقية والمنحوتات وغيرها في تفسير فلسفة الصيد أشبه بـ”دمى” تختلف تماماً عن صيد الطرائد التقليديّة المعروفة في الطبيعة، لا يبتغي منها مبدعوها فائدة ماديّة مباشرة واضحة وصريحة تُغني من جوعٍ وتحمي من بردٍ، بل هي متعة خالصة ورغبة دفينة لها علاقة بـ”الرؤيا” والخيال والوهم وإنجاز نوع من الرضى الذاتيّ الصرف، يحقّق أعلى قدر من التوازن النفسيّ الجماليّ في ذات الفنان وهي ينفق الكثير من الجهد والوقت والتأمّل والتفكير والإبداع لأجل اصطياد دمية فحسب.