فيديو كونفرينس

آراء 2020/08/24
...

حسن جوان
فرضت صيغة الحياة المستجدة أشكالاً متعددة من التكيّف لواقع التباعد الاجتماعي، ودعت ضرورات التعامل مع الوباء أنماطاً من السلوك الذي أنتج تحولات ألقت بظلالها على مضامين كثيرة تقع في صميم تعاملاتنا التعليمية والسياسية، كانت قد مهّدت وسائل التواصل الاجتماعي وسائط مستحدثة للعلاقات العامة والخاصة، ونحا التعليم عن بعد «اونلاين» لسنوات أخيرة باتجاه توسيع اعترافه بالتحصيل الدراسي الاكاديمي المتأتي عبر هذا الإنتاج التعليمي المعاصر، فضلا عن انفتاحات قريبة للبرامج الثقافية والأدبية حول العالم، وقد أتت تجربة الوباء القسرية لتعزيز هذا الاتجاه المتساوق مع توصيات باستثمار فضاء اللامباشرة المتاح لاستمرار سائر فعالياتنا الحياتية التفاعلية عن بعد مؤاتٍ يضمن دوران عجلات الاقتصاد والثقافة والسياسة. 
وبينما شهدنا عشرات التبادلات الحوارية والندوات الثقافية المرقمنة في بث مباشر او مسجل، وبعضا من العروض الفنية والتشكيلية التي تحتاج الى حوارية بصرية أكثر مباشرة، لكن اعتبرنا كل هذه المحاولات ذات القيمة المعنوية المقبولة عبارة عن حيوية إيجابية، لم تركن الى كابوس الحظر العالمي وضروراته لتشكل يقظة ثقافية وإنسانية وفيّة ترمي الى تحريك الذات والآخر وسط برك العزلة الراكدة.
اعتماد ذات آليّة التفاعل الثقافي عن بعد انسحب بشكل أكثر وضوحاً نحو المؤتمرات الأممية والمحادثات السياسية الثنائية وغيرها، في ظاهرة تستدعي نوعاً من التساؤل بشأن تخلّي السياسي عن غرفته السرية التي هي مطبخه الدائم لمناقشة ما وراء المعلن من خطاب بروتوكولي مغرق في شرعيته وإنسانيته. هذا لا يشبه ما اعتدنا عليه من مناقشات علنية وأخرى سرية لا تمنع فيها وسائل الإعلام فقط من تخطي عتبات دهاليزها بل تجاوز ذلك الى إفراط نقيض في العلانية المشاعة عالمياً. 
المؤتمرات الفيديوية هذه تنحسر فيها اللقاءات الهامشية وربما تمتنع فيها التهامسات وأنساق كافية من اللغات الإيمائية لكثير من المشاركين فيها من أقطاب ماهرين، لعقود غير متناهية كانت هناك لغة معلنة واتفاقات ذات منطوقات غامضة او عمومية تبرم بين ساسة العالم، ويكاد يصل الامر الى وجود لغة خاصة يتبادلها السياسيون ذات محمولات وشفرات باطنية تفتقر الى التفسير العمومي من لدن الشعوب، وكانت تعدو حقب ليتبين العامة ما وراء تلك الاتفاقية او ذاك العداء والصلح، وقد تنعقد مهمة التوضيح والتأويل الى فئات من الكتاب والمحللين المروّجين لعبقرياتهم بطريقة أكثر انحيازاً منهم الى تبيان غموض الخطاب السياسي او الحدث المباغت المرتبط بحركات دولية شاملة لا يفقه منها المواطن البسيط شيئاً أكثر مما يفقه البدائي من صوت الرعد الذي يعقب ضوء الصاعقة النازلة على مزرعته وحده من دون العالم. لا شك أن مؤتمرات اليوم الفيديوية المعلنة تعرف طريقها غير المعلن وما يسبقها من مهاتفات سابقة ولاحقة لا يغيب منها طعم التحضيرات اللاذعة لذات الطبخات المعتادة، لكنها بشكلها الحالي توفر للعموم نوعا مستحدثا من الرفاهية والمشاركة الفورية، وهي رفاهية لم نعتد عليها وحرمان سوف يعتادون عليه.