البساطة أوالفخامة: سلوك وفكر

آراء 2020/08/24
...

د. محمد القريشي 
  لم أنسَ دهشة أحد الخبراء  الفرنسيين، عند دخوله معي قبل سنوات، لمكتب مسؤول عربي رفيع، وقف حينها متأملا طاولته المصنوعة مِن الخشب النفيس وقطع الاثاث الخشبية الملونة والبراقة، التي تصطف عليها مختلف اجهزة الاتصالات، وعدد من الأعلام الكبيرة والصغيرة، وهي تكاد تغلق الفضاء من حوله، فضلا عن الثريات والورود الطبيعية والاصطناعية وعلب الحلوى وموظف الشاي الذي ينحني أمامه كل مرة يضع فيها فناجينه  وغير ذلك!، وأحسب أن، صاحبي استذكر خلال تلك اللحظات، مكتبه المتواضع الذي يحتوي على طاولة وثلاثة كراسي وجهاز حاسوب.. لم يثر انتباهي هذا التباين بين الحالتين، لمعرفتي بطبيعة الثقافة الغربية المعنية أساسا بالمنجزات المقرونة بأقل الكلف، في إطار العيش بتوافق مع الذات والبيئة، ولكن ما دفعني الى تناول هذا الموضوع، هو وجود حركة انبثقت مِن رحم الفنون، تدعى (التبسيطية) او ما يسمى بالانجليزية (  minimalism)، لها علاقة بهذا السلوك، وفي الاساس، ازدهرت  هذه الحركة الفنية في ستينيات القرن الماضي كجزء من المدرسة التجريدية، تتميز بتقديم الأعمال الفنية بأقل عدد من العناصر والألوان، وتعتمد على التبسيط وحذف الكثير من التفاصيل. تحول الاتجاه “التبسيطي”، لدى الكثير مِن الناس الى طريقة للعيش هذا اليوم، تدفع نحو التحرر من الاشياء غير الضرورية، وتؤدي الى تقليل إشغال الفضاءات المحيطة بالانسان الى أقصى ما يمكن... يرى الكاتب الفرنسي دومينيك لورو، بأن التبسيطية “تمثل للكثير وسيلة للتخلص مِن القلق والتوتر والابتعاد عن المجتمع الاستهلاكي”.. سيدة متمسكة بهذا النهج كتبت على صفحتها، بأنها اختزلت نحو ٨٠٪ مِن حاجاتها الخاصة واصبح كل ما لديها محفوظا في حقيبة وزنها ١٠ كغ، لكي تعيش ببساطة. ولهذا النهج جذور في مختلف الاديان وفِي الفلسفات القديمة.. يميز  الفيلسوف اليوناني “ابيكور” رغبات الانسان، الاساسية (مثل  النوم و الطعام)، عن غير الاساسية (مثل الثراء والفخر)  وغير ذلك.. تظهر تجليات هذا النهج في بساطة الإدارات الحكومية والمؤسسات والمنازل وحتى طرق اختيار الملابس، وقد وقعت كذلك، على خبر يخص طبيعة حياة مالك شركة الفيسبوك، مارك زوكيربيرك الذي اصبح بعمر 23 عاما أصغر مليارديرا في العالم ...  الذي يلبس في اوقات كثيرة (فانيلة) أحادية اللون وبنطلونا بسيطا وحذاء رياضة ... وعندما يُسأل عن سبب تمسكه بلون واحد  يجيب: لأنه، لا يحب إضاعة الوقت في البحث بين الألوان  عندما يرغب بتبديل قطعة وسخة بأخرى نظيفة، هناك مقولة لمؤسس شركة آبل الملياردير ستيف جوبز، الذي عرف بإفراطه بالبساطة، جاء فيها (أن أكون أغنى واحد في المقبرة، لا يمثل لي هذا الامر شيئا... ولكنني أكون سعيدا عندما أتوجه الى النوم وأحدث نفسي: بأنني عملت شيئا مهماً هذا اليوم)، لا اعتقد حقيقة، بوجود تباين كبير في الذكاء بين البشر يؤدي الى اختلاف مواقعهم على سلم التطور، بقدر وجود تباين في أنماط التفكير والثقافات يؤدي الى اختلاف في ترتيب سلم الاولويات او الفوضى.... المثير أننا نلبس ملابس الغرب، ونشتري أسلحته وسياراته ونتواصل باجهزة اتصالاته، ولكننا لا نتعلم منه قيم البساطة والصدق والاخلاص بالعمل التي ساعدته في تحقيق منجزاته النوعية  وكثير مِن قيمها.