مَنْ يبني الدولة .. مَنْ يبني المُجتمع؟

آراء 2020/08/24
...

 رضا المحمداوي 
في إطار الرؤية الستراتيجية لبناء الدول والمجتمعات الحديثة، وخاصةً تلك التي ما زالتْ في طور التشكّل والتفكير والتخطيط، أو التي تعيش المرحلة الانتقالية الحرجة بمصاعبها وإشكالاتها وإفرازاتها المتعددة، والعراق واحد من تلك الدول، في إطار هذه الرؤية ينبثقُ سؤالُ الحداثة بمأزقِهِ الحضاري الصعب :- مَنْ يبني الدولة ... ومَنْ يبني المُجتمع؟
هل يبنيهما -الدولة والمجتمع معاً- موظفو الدولة التقليديون بدوامهم الروتيني اليومي؟ أَمْ يبنيهما القادة التاريخيون للشعوب، والثوِّار، والأبطال الوطنيون بخصائصهم وهويتهم التاريخية بلحظة الزمن
المُكَثَّفة؟ 
وفي حدود الشق الأول من السؤال تأتي الإجابة واضحةً في التجربة العراقية الراهنة بأنَّ لدينا في الرئاسات الثلاث (الجمهورية والنواب ومجلس الوزراء) بجميع أعضاء مجلس النواب والوزراء والوزارات والأعضاء، وكذلك في مجالس المحافظات والحكومات المحلية، موظفون يُعَدون بالآلاف المؤلّفة، لكنهم يبقون مجرد موظفين حكوميين عاديين يعيشون في دوائر ومؤسسات وشركات تحوم حولها شبهات الفساد الذي تزدادُ نسبتُهُ داخل المنظومة الحكومية الرسمية بأدلة وإحصائيات وجداول تصدرها هيئات النزاهة والرقابة المالية واللجان الحكومية والبرلمانية، فضلا عن مؤشرات وبيانات صادرة من منظمات ومؤسسات دولية، وقد أصبحتْ هذه المعلومات معروفة ومتداولة وتتناقلها وسائل الإعلام و(الميديا) الاجتماعية واسعة الانتشار والتداول.
فأولئك يبقون موظفين يَعدُّون الأيام ليتسلّموا الرواتب والمخصَّصات المالية ولديهم الامتيازات، لكنهم غير معنيين بمشروع بناء الدولة والمجتمع وبناء المدن الحضارية التي ينبغي لها مغادرة محطة التغني بالماضي المتهرئ القديم لتبدأ رحلتها  صوب
 المستقبل. 
إذن مَنْ يبني الدولة والمجتمع
معاً؟
هل تبنيهما صورة الحداثة الغائبة عن العقل السياسي بأزماتِهِ المستنسخة لدينا، أَمْ تبنيهما إنجازات العلم المُعطَّلة؟ أمْ تبنيهما الأفكار المُعلَّقة بالغيبيات الميتافيزيقية، والتعلّق بحبال الماضي، والتشبُّث بالقشور وترك فاكهة العمل والإنجاز والتأسيس تجفُّ في أشجار الانتظار حتى تتيبّس وتعبث بها رياح الزمن؟
هل تبنيهما المؤسسات الحكومية، التي تعاني في بعض مفاصلها من الوهن والضعف اللذين سرعان ما يصطدمان بسلاح العشائر المُدَجَّن اجتماعياً؟ أَمْ تبنيهما المؤسسات الحكومية، وقد أصبح الحديث عن هذه الظاهرة الأخيرة يدور جهاراً وبشكل رسمي من خلال المؤتمرات الصحفية والكلمات المتلفزة التي تتناقلها وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، وقد أعلن الكاظمي رسمياً وبشكل صريح وجود مافيات وعصابات وجهات متنفذة خارجة عن القانون تعبث بثروات ومُقدّرات هذا البلد الغني وبما يَحرمُ المجتمع من التمتع بخيراته، وكشفت الحملة الوطنية التي قادها (الكاظمي) بالسيطرة العسكرية الرسمية على المنافذ الحدودية في الوسط والجنوب عن حقيقة هذه الظاهرة وتجذرها السرطاني خارج هيكل الدولة الرسمية، ومدى ما تلحقُهُ مِن ضرر وتدمير في البنى الاقتصادية للدولة، وما تشيعُهُ، في بعض جوانبها، من
خراب وتراكم في أرصدة المال السياسي الفاسد. تُرى في أيِّ عقل تشكَّلتْ، أو ينبغي لَها أنْ تتشكَّل، صورة الدولة المستقبلية والمجتمع الذي يحكمُهُ ذلك العقل ويقودُهُ، وقد سَبَقَ لهذا المجتمع أن أنجبَ تلك العقول المركزية الحاكمة واختارها لكي
 تقودَهُ؟
هل يتسِّعُ العقل التقليدي، وسيادة العُرف والمنطق العشائري، ونظام المحاصصة السياسي، ولغة المغانم والمصالح المُتبادَلة لتثبيت الرؤى والتصورات والأفكار عن دولة ومجتمع ومدن المستقبل؟
وقبل هذا وذاك هل لدينا أيّ تصوِّر أو مشروع ستراتيجي لدولة المستقبل الغائبة عن عقول موظفي الدولة، وغائبة كذلك عن رؤية وتصوّر وأفكار العقل السياسي الذي يتوجّبُ عليه الإمساك بدفة سؤال الحداثة وسؤال المعنى والجدوى؟
ولا بُدَّ لي من التذكير، هنا، أنني أتحدثُ عن الفلسفة.. فلسفة بناء الدولة والمجتمع معاً بمرتكزاتهما الرئيسة ومجالاتهما الحيوية المُهِمِّة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، وليس الفلسفة بمعناها التجريدي والانشغال بصياغة المُثُل والمصطلحات والمفاهيم، وإنما إنطلاقاً من كون الفلسفة منظومة أفكار متكاملة والتي في ضوء معطياتها الفكرية والعلمية يتمُّ بناء الدول والمجتمعات الحضارية المعاصرة والمُدن المستقبلية.