عن البنية في الرواية

ثقافة 2020/08/26
...

بشير حاجم
 
 
 
في البنية إنعاش النص للقارئ، سواء استثنائي أم اعتيادي، لأنها بنيةُ شكله، أيْ شكل نصِّ الرواية، حيث المكتوب، أمام قارئ ما، يمارس نشاطَه لصياغتها، ناهضا بسرديتها، فيتميز بها، مقروءا حينها، عبْر علاقتها بالقواعد والقوانين المميزة لها. إلّا أن هذه العلاقة، بما يميزها هنا، ليست بمعزل للبنية عن: التقنية، الثيمية، الجمالية. فإنْ أُريدَ لروايةٍ تحديثيّةٌ، بالضرورة، يُلزَمُ كاتبها بالاشتغال فيها على: بنية، تقنية، ثيمية، جمالية. لكنْ.. أيمكن لكل نص سردي طويل، كالمعتاد، أن يكون رواية، أيْ يستأهلها تجنيساً، إذا تَوفّر على هذا الدفع الرباعي فقط؟ لا.. يجب عليه، وجوبا باتّاً، أن يتّسم بدفع رباعي ذي مسرود: ما يرد من سارد إلى مسرود له، هو ذلك القارئ، منتظماً في مجموعة أحداث مقترنة بشخصيات ثم مؤطّرة بأزمنة وأمكنة. إذاً: للمسرود مكوّنات أربعة، تحديدا، هي: الحدث، الشخصية، الزمن، المكان. فقط أوّلُها، هنا، هو القاسم المشترك الأعظم للمكوّنات الثلاثة الأخرى. إنه «الحدث»، تعيينا، ذو المراحل الثلاث الآتية: العرض = الفرشة، النمو = الحبكة، الربط = العقدة. لذلك فإن الرواية، بوصفها نصا سرديا طويلا، لن تكتفي بمرحلة «العرض» وحدها، لأنها ليست (قصة قصيرة جدا)، ولا بمرحلتي «العرض و النمو» معا، لأنها ليست (قصة قصيرة)، بل تجمع مراحل «العرض، النمو، الربط» كلّها، لأنها (رواية)، كي تحقق الدراما.
هنالك روايات، رغْم أهميّة كتّابها، قد اكتفت بالعرض، الفارش، أو، بالكاد، ربّما وصلت للنمو، الحابك، دون الربط، العاقد، وهذا جدُّ مؤسف! إحداها، على سبيل المثال، ثمة: بلدة في علبة، دار سطور ـ بغداد، 2015. يقول عنها كاتبها حامد فاضل، ص12، عند استغلاق «كلام خاص»: (هي محاولة لكتابة سيرة زمكانية لمدينة الحرف الأول، فإن نجحت، فذلك الذي سعيت إليه.. وإن لم أنجح فالمحاولة تكفيني). صحيحٌ أنَّ فيها، من الثنائيات الندّيّة غير الضدّيّة، ما تُعرف بـ الزمكانية= الزمن + المكان، لكنْ، في المقابل، ماذا عن الحدث و الشخصية؟ نعم، بالتأكيد، نجحت محاولته، التي سعى إليها، في كتابة سيرة زمكانية فذّة. بيْد أن فذاذتها هذه، التي يُعترف بسرديتها حتماً، لمْ تَرْقَ بها إلى تجنيسها بـ «رواية».بعكس (بلدة في علبة)، وأمثالها، ترقى نصوص سردية طويلة إلى تجنيس «رواية» لكنْ فاشلة. لهذا هنالك روايات، مجازيّاً فقط، تجارية: مباشِرة غير مناوِرة، سطحية غير عمقية، ساذجة غير حرّيفة. كأنْ تكون إحداها، هنا، خليطا هجينا من: رومانسية، بوليسية، فنطازيّة. لن ترقى بكينونتها هذه إلى مستوى الإبداع، ضمن مجالها، مهما بدا إصدارها ذا ماركة عريقة في التسويق. هكذا الحال، مبدئيا ثم تفصيليا، مع رواية: اغتيال نوبل، دار الهلال ـ القاهرة، 2017، على سبيل المثال، بدءاً من بنيتها. إذ أن عمودها سارد (إله)، يَرى لا يُرى، أيْ خارجي كلي: أوحد ـ أعلم. فكان عليه، لذلك، أن يقدم شخصياته على وفق واحد من بناءات ثلاثة:
* أولها، وهو تقليدي جدا، أن يقدمها جميعها (أحداثاً) في كل فصل عبر مقاطع معيّنة له تتابعيا أو تراوحيا.
** ثانيها، وهو شبه تقليدي، أن يقدمها عبر أبرزها (أصواتاً) بين فصل - أو فصلين أو أكثر - وآخر تناوبيا.*** 
ثالثها، وهو جدُّ تقليدي أيضا، أن يقدمها ممثلة ببطلها (أوصافاً) في جميع الفصول ومقاطعها تتابعيا.لكن الكاتب أسعد الجبوري، مؤشِّرا على نفسه ضعفا في وعيه بالبناء السردي، لم يعتمد أيا من هذه البناءات الثلاثة، رغْم يُسرها، بل اعتمد بناء ممزوجا منها، كلّها، فإذا به خليط هجين، معيب، أدّى إلى اغتيال «الرواية» بدل (اغتيال نوبل). هنا سارد (إله) في رواية، كما ورد – قبل قليل – عمودا لبنيتها، يحيل إلى صيرورة روائي (إلهاً) في روايته. هذه الإحالة، الآن، تبدأ بكيفية إجمال العلاقة المثلى، الفضلى، ما بين: الروائي ذاتاً حياتية ثيميّة و الرواية موضوعا أدبيا جماليا. لأن الرواية مخلوقة، منه، فإن الروائي خالق، لها، لذلك: إنّ من جزْء الحق له، بكينونته سياقيّا خارجيا، أن يبدو في ممارسته الحياتية ثيميّاً .. لكنّ من كُلّ الواجب عليه، لصيرورته نصّيا داخليا، أن يغدو في كتابته الأدبية جماليّاً. هكذا يُفهَم، إذاً، ما قُصد بالمسافة الفاصلة بين أيّ روائي وروايته: إنْ لم يُقطع الحبل السري بينهما، كما أُمّ وجنينها، لن نجد عملا أدبيا بل وثيقة شخصية. لو مُحّص هذا القصد، بعناية، لاكْتُشف أنه تدويم تجديدي للقول بأن على الروائي «أن يكون أثره كالإله في الكون غيْرَ مرئي وقديراً على كل شيء بحيث أننا نشعر بوجوده في كل مكان ولكننا لا نراه».
في روايته: مقتل بائع الكتب، دار سطور ـ بغداد، 2016، على سبيل المثال، هو ذا هنا سعد محمد رحيم. إنه كاتب ذكي، بوعي، حين زجَّ باسْمه شخصيةً ثانوية عابرة، فيه، على لساني بطليه: الحاضر صاحب الكتاب ماجد البغدادي (صديقي الروائي سعد محمد رحيم دلّني عليك.. ص9) – الماضي بائع الكتب محمود المرزوق (كان هناك سعد محمد رحيم أيضا.. ص61). أي أنه، هكذا مراده؟، قد تخلّى عن البطولة لهما بحكم هذين الاعتبارين: أن يقطع الحبل السري بينه وبين روايته – لكي يُشعَر بوجوده في كل مكان لكن دون أن يُرى! لذلك فإن (مقتل بائع الكتب)، = المتن، بدا حدثا مسرودا من عدة ساردين: رئيسيين ((فراس سليمان، هيمن قره داغي، سامي الرفاعي، رباب)) مع ثانويين ((الاستاذ حيدر، الرائد حسن المقدادي، الحاج منصور الهادي، الباهرة الآسرة جانيت، المدعو أثير العراقي)) فضلا عن «محمود المرزوق» ذاته! بيْد أن كلّ واحد من هؤلاء الساردين، الرئيسيين ـ الثانويين، لهذا الحدث المسرود، إجمالا، كان «ماجد البغدادي» متحكِّما بسرده (أتراني قمت بما هو حق لي؟ نعم.. ألست المؤلف؟ ص147). بلى هو «المؤلف»، الآن، وقد تحكّم بكل ساردي (مقتل بائع الكتب).. لكنّه مؤلف فقط، لا غير، حيث ثمة روائي، خالق له، تحكّم به، كلّه، مع أنّه متحكِّم بسارديه.. فكان «أثره كالإله في الكون»، إذ غدا «غيْرَ مرئي وقديراً على كل شيء»، وهو الروائيُّ إلهاً.