علي شايع
تذكرت حكاية مسرحية مهمة، عن بلاء ووباء يشبه ما نواجهه هذه الأيام.. تذكرتها وبعض الأفكار العبقرية لمبدعين خالدين تغيّبك نشوتها أياماً، لا تخرج منها إلا وأنت على بينة من هائل إبداعهم.
مسرحية القائل نعم والقائل لا، للكاتب والمخرج الألماني العبقري برتولد بريخت، في الأصل حكاية من مسرح النو الياباني، يستثمرها الكاتب بصياغة طريفة مستجدّة الدلالات. المسرحية تروي عن فترة وباء ينتشر في قرية يقطنها معلم يقرّر ورفاقه عبور الجبال، لإحضار علاج ومستلزمات طبية لمواجهة الخطر. المعلم وضمن استذكارات الوداع، يخطر على باله تلميذ له تغيّب عن الدرس في الفترة الأخيرة، فيقرّر زيارته قبل المضي بمشواره الاستكشافي.
في المشهد المسرحي الأول يدخل المعلم على التلميذ في بيته، سائلاً إياه عن سبب غيابه، فيخبره عن إصابة والدته بالوباء ومكوثه قربها لرعايتها. ويدور حديث بين المعلم والأم تقترح فيه اصطحابهم ابنها في رحلة البحث عن العلاج خلف الجبال في المدن البعيدة، فيوافق المعلم.
في تلك الرحلة الشاقة عبر الجبال، تبدو علامات الوهن على الفتى، حتى يكتشفوا أنه مَرِضَ، وسيكون عليهم سؤاله -روتينياً- وفق العرف التقليدي لمثل تلك الرحلات: هل علينا أن نعود بك ادراج القرية، أم نتركك ونمضي في مشوارنا؟. فيخبره أستاذه أن من البطولة المعتادة في مثل وضعه، أن يقول المرء (نعم) أوافق أن تتركوني، ليستمر المسير. يوافق الفتى، مضيفاً شيئاً يغيّر نمط التقليد المتوارث، فهو خائف ومتألم، لذا سوف يعطي أستاذه قارورته، ويرجوه جلب الدواء لأمه نيابة عنه، ثم يطلب منهم أن يقذفوا به الى غيابة الوادي السحيق، ويرموا عليه من أحجار الجبل، ففي ذلك أمنيته الأخيرة وراحته، فيفعلون ذلك.
لا تنتهي المسرحية عند هذا الحدّ، بل يبدأ بريخت بكسر النمط المسرحي الكلاسيكي من خلال إعادة المشهد كاملاً ووضع نهاية أخرى.. نهاية واقعية لكنها مستفزة وصادمة، تكسر الإيهام المسرحي نوعاً ما، ولبريخت تنويعات مماثلة تعلن أدوات مدرسته الإبداعية في كل عمل مسرحي.
في المشهد الثاني من مسرحيته "القائل نعم والقائل لا" سيتكرّر المشهد الأول بكلّ وقائعه، وصولاً الى سؤال المعلم وفق العرف التقليدي لمثل تلك الحالة: هل علينا أن نعود بك ادراج القرية، أم نلقي بك في الوادي ونمضي في مشوارنا؟. وإجابةً عن هذا السؤال المفصلي يصدمنا الكاتب بحالتين: الأولى؛ في ما يُلاحَظ من تغيّر صيغة السؤال. والحالة الثانية؛ مفاجأة الجميع بالإجابة المغايرة، لأن الفتى قال (لا) مفضلاً العودة الى قريته. فيحتج البعض ظاهراً على القرار، ويشتعل نقاش حول القضية، يُختتم بقرار أن يعودوا به، محتفلين بهذا الإياب الغانم.
في موقف المشهد الأول، كأن الفتى (القائل نعم) لحظة وافق على أن يُترك وحيداً، ابتدع طريقة الرمي الى الوادي، وغيّر من حيث لا يحتسب نمط التقليد المتعارف عليه، وسنّ سنّة جديدة مختلفة. سرعان ما أصبحت منهج عمل وتقليدا يتبع بقداسة، ذاك التقليد الذي يرى بعض من معه في الرحلة الآن أنه واجب الإتباع الحتمي كمعروف مقدس، وإن كان فيه موت حتمي. فها هم يحيطون بالفتى المتداعي لسؤاله وفق العرف التقليدي لمثل تلك الحالة: هل علينا أن نعود بك ادراج القرية، أم نلقي بك في الوادي ونمضي في مشوارنا؟.
الجموع المحتجة لهول الفكرة الجديدة؛ المنضوية على عودتهم، ستقلقهم الحالة المستحدثة، لأنها ستعطّل الرحلة والمشوار المعتاد، وستحجب الفعل المقدس أيضاً، لأجل هذا سيضيفون إلحاحاً وبشكل ضمني، رجاء قبوله فكرة عرف (الإلقاء الطوعي في الوادي) كتقديس لتقليد يُمتَثلُ له. لكن الفتى يصرّ على كسر ذلك الإتباع السالف، رغم محاججتهم بأنه مع بدء الشروع بتلك الرحلة قد وافق بشكل مبدئي على شروطها.
المسرح العبقري لبريخت يطابق شروطه لكلّ زمان ويجتاز المتغيرات المكانية بحكم فلسفة الفكرة، والسؤال هنا: ترى هل تصلح الفكرة التي أرادها بريخت لزماننا، وما يدور فيه من وقائع وأحداث، ومناسبات وأعراف؟.
الفتى قال: "العرف هو حالة محدثة قديمة، وأيّة حالة قديمة، لا بد أن نفكر فيها بطريقة جديدة". والجموع رأت في كسر نمط -الموهوم قداسته- من الأعراف، مخالفة مشروعة للضرورة، مادامت هذه المخالفة ستنقذ حياة إنسان واحد على الأقل - في المستوى المدرك المنظور- واجباً من البعد الإنساني، أما البحث عن البطولة، فتُجسّد في ما انطوت عليه الفكرة الأعمق في تحدي المقدس الوهمي المُهلكِ سهل الإتباع.
تلك الجموع وجدت، بادئ الرأي، الخروج على نمط ما اعتادت عليه من قدسية "العرف الكبير" أمراً صعباً لا يمكن التفكير به مطلقاً، فالمعتاد أن يتأسوا بما تداوله الأجداد من أفعال. لكن مخالفة الأمر ستبدو في نهاية المطاف حكيمة وسديدة الإصابة، لمن يحكّم العقل، فإنقاذ حياة انسان من الخطر هي الاحتفاء والاحتفال الأكبر الأهم، لأن حياة هذا الإنسان في أصلها، أقوى وأبقى من أي عرف، ولا تقدّر بثمن، وإن بعض العرف واهن وضعيف ولا أصل له، وليس المعروف عرفاً، كالمشروط شرطاً في جميع الحالات، وإن المقدس الحقّ هو حياة الإنسان لا طريق التهلكة.