مسرح {التشبيه الحسينيّ} سرديّات وطقوس الملحمة التراجيديّة
ثقافة
2020/08/29
+A
-A
د. عبّاس آل مسافر
في بابِ النقاش العلميّ والحوار المعرفيّ المنفتح أيام الدراسة الأكاديمّية مع أستاذنا الكبير الدكتور عبد الإله أحمد "رحمه الله" عن المسرح العربيّ ومرجعيّات النشأة والتأسيس، كان مصرًا على أنه ليس هناك مسرحٌ عربيّ بالمعنى الحديث للمسرح كما هو الحال عند الإغريق والرّومان.
وأنّ التشابيه الحسينيّة ليست من المسرح ولم تمت بصلة له بتاتًا، ومرتكزات أستاذنا مستندة إلى المقارنة مع المسارح التي سبقته، من خلال أن عناصر المسرحية لم تكن متحققة فيه، لا من ناحية الزمان؛ لأنّه يعيد قصة واحدة معروفة سلفًا لدى المتلقي ويكرر الأحداث كما جرت في الواقع، وأيضًا لعدم وجود خيال أدبيّ فيه يزيد محتواه من دافعية التشويق وأفق التوقع، وكانت حجتنا ـ نحنُ طلبته ـ في المناقشة بأنَّ العربَ قد عرفوا التمثيل مبكرًا وإن كان بمظاهر ساذجة وبسيطة، ثمّ تطورت تلك المظاهر شيئًا فشيئًا ووصلت إلى قمة النضج حينما تلاقحت مع الحضارة الأوروبيّة بفعل الترجمة ودخول المستعمر لبلادنا العربيّة في وقت مبكر من القرن العشرين لا سيما الفرنسيّ في بلاد الشام ومصرَ وبعض أقطار المغرب العربيّ، وما تجارب مارون النقّاش في سوريا ويعقوب صنّوع في مصر إلّا دليل على ما نقول.
بينما كان الدكتور جميل نصيف التكريتي ومن خلال ما ذكره في مقدمة كتابه " المسرح العربي.. ريادة وتأسيس" يعتقد بأنَّ المسرح ظهر عند الإغريق والرومان واختفى في ممالك العرب، لأنهم ـ الإغريق والرومان كانوا يصارعون الآلهة الموجودة في السماء ويخلقون الأساطير عنّها وهي مادة أدبيّة رجوعًا إلى تعريف الأساطير نفسها بوصفها حكاية سرديّة عن الأزمان الغابرة، أمّا العرب فقد كان صراعهم مع بعضهم البعض، والصراع العمودي أي مع الآلهة يولّد دراما، بينما الصراع أفقيًا يولّد أشعارًا ، سواء في الحماسة أو الرثاء والهجاء؛ لذلك انكفأ المسرح عندنا، وازدهر عندهم، ولو طرحنا التساؤل الآتي، هل أنَّ الصراع عند العرب كان أفقيًا دائمًا أم إنّه يمكن أن يكون عموديًا لكن بصورة غير مباشرة، إننا يمكن وضع اليد على بعض ملامح الصراع في تراث العرب قبل الإسلام وبعد ظهور الإسلام، ألم تكن الوفود التي تدخل قصور ملوك العرب مثل النعمان بن المنذر أو ملوك الغساسنة من كلِّ أطراف المعمورة تحملُ في ثنايا وفادتها مظاهر المسرح الذي يتجسّد عن طريق تقديم الأشعار بمناسبة معيّنة أو غير معيّنة والتي تعد من ضمن بروتوكولات الزيارة واستمرت حتى بعد الإسلام، وتتخلّل هذه المراسيم الأبعاد الوثنيّة التي تصل في أحيان كثيرة إلى إشراك الملك بالإلهية، والأشعار في ذلك كثيرة كما نجده عند الأعشى ، حين يساوي شاعر البلاط الملكيّ مع السماء وإرادتها، وهذا هو قمة الصراع العموديّ، وغيرها من الأحداث التي تبرهن على إنّ مقولات عدم وجود مظاهر للمسرح العربيّ غير واقعيّة وتضع تلك المقولات على محك النقد والتمحيص.
أمّا مع الدعوة المحمديّة فكان الصراع أفقيًا بالظاهر لكنه كان صراعًا عموديًّا بالحقيقة مع المبادئ الساميّة التي دعت إليها السماء، وكانت حجة المشركين ليست بصدقية الرسول والدّعوة، بل في الخوف من اختلال البنية الاجتماعيّة والاقتصاديّة لهم، لذلك دعوا الرسول إلى الاعتراف بآلهتهم مقابل دخولهم في الإسلام، وهناك الكثير من الأفعال الدراميّة لا سيما في الحرب، فمثلاً قامت هند بن عتبة بعد قتل الحمزة بن عبد المطلب وتقطيع أعضائه وجعلها قلادةً لبستها ودخلت بها مكة وهي ترتديها، فهذا مظهر غير مألوف سابقًا كما تذكر كتب التاريخ وهي بذلك تبتكر دراما جديدة للثأر. كذلك الفعل الدراميّ المتجسّد باستقبال النبيّ (صلَّ الله عليه وآله وسلّم) من قبل الأنصار بالأشعار والأهازيج والترحيب، وأيضًا الفعل الدراميّ لليهود حين أخرجهم الخليفة عمر بن الخطاب (رض) من المدينة فخرجوا بطريقة تراجيديّة ـ كما يذكرها صاحب الأغاني ـ بجوقات يصحبها ضرب الطبول وترافقها الأشعار الحزينة، ولو فتشنا مع تقدم الزمن نجد ملامح من تلكَ المظاهر المسرحيّة تأخذ أشكالاً جديدة في العصور اللاحقة الأمويّة والعباسيّة والمتأخرة، كما هو الحال في أشعار النقائض التي أصبحت مسرحًا شعرياً يتبارى به الفرزدق وجرير والأخطل أمام الجمهور الذي هو الحَكَم للشاعر الأقوى من خلال التصفيق له أو التهليل والميل لجانبه، وقد دفع هذا الفعل الدراميّ بهذا النوع للاستمرار مدّة زمنية وصلت إلى خمسة وعشرين عامًا عند بعض المحققين وأدامت الصراع بين الأفكار والتوجهات وجرت بسببها منازعات قبليّة. ويذكر الدكتور محمد حسين الأعرجي "رحمه الله" في كتابه "فن التمثيل عند العرب" بأنَّ العرب قد عرفوا التمثيل بدءًا من العصر الجاهلي إلى العصور المتأخرة، ومن خلال متابعة الأعرجي لبعض الظواهر التي تعد بحسب رأيه بأنّها تمثيل ودراما، مثل الكَرج وحفلات البهلوانيين والحكواتيين في قصور الخلفاء العباسيين، وكذلك القرقوز الذي تطور في ما بعد إلى "خيال الظل".
أسوق هذه المقدِّمة بشأن بعض المقولات النقديّة التي تتناول أوليات نشأة المسرح العربيّ وأصوله ومرجعياته الثقافية، للدخول للموضوع الذي أريده، والذي أقدّمه بالسؤال التالي، هل يوجد مسرح (حسينيّ) أو ما يسمّى بمسرح (التشابيه أو التعزية) عند البعض الآخر، وهل يمكن أن نعد نشأة هذا المسرح مرتبطة بظهور المسرح العربيّ، أو إنّ مسرح (التشابيه) يعدّ واحدًا من أصول المسرح
العربيّ. لقد كان لمسرح (التشبيه) فرادة تختلف عن مظاهر أوليات المسرح العربيّ الأُخر، من ناحية أنّه منذ نشأته كان مسرحًا تراجيديًا يجسّد مأساة الإمام الحسين (عليه السّلام) وأصحابه، والهدف هو نشر الوعي وإظهار المظلوميّة، وإنّه منذ بدايته كانت تجري عليه الإضافات من خلال تقسيم المناظر المسرحيّة بحسب الشخصيّات التي اشتركت في واقعة كربلاء لذلك تم تقسيم اليوم الواحد وهو (يوم العاشر) من شهر محرّم إلى عشرة أيام، لكل شخصيّة يوم معيّن.
ومن خلال المقاربة التي أقامتها المستشرقة "تمارا الكساندروفنا" في مؤلفها المعنون "ألف عام وعام على المسرح العربي" بين ولادة "المسرح الحسينيّ" و"المسرح الإنكليزيّ" نستشف بأنّ سبب عدم إتاحة الظروف الأدبيّة لنشوء مسرح خالص للمأساة الحسينيّة الضاربة جذورها في الوجدان الإنسانيّ هو عدم وجود كتّاب دراما أخذوا على عاتقهم نهضة المسرح الحسينيّ مبكرًا؛ إذ تقول "ولا يتبقى لنا في النتيجة إلا أن نأسف لعدم ولادة شكسبير عربي كان باستطاعته تجسيد طباع أبطاله وسلوكهم في الشكل الفني للتراجيديا الدموية، ان في هذه المادة من المؤامرات والقسوة والتعسف والشر ما لا يقل عما كانت عليه في مواضيع عصر حروب الوردة الحمراء والوردة البيضاء لكن رغم عدم توفر الأساس الأدبي المتين، فقد أدى مصير الحسين المأساوي وأدت معركة كربلاء إلى ولادة (التعزية) التي تعد من أقدم العروض المسرحية في العالم ص:34".
ومن خصائص المسرح (الحسينيّ) الأُخر أنّه موسميّ ونشأته دينيّة بحتة وليست أدبيّة، أي إنّه يتم عرضهُ في أيامٍ معلومات من كلِّ عام يحلُّ فيه شهر محرّم. ونقول بأنّ هذه الموسميّة لا تتناقض مع الفعل الدرامي للمسرح التراثيّ الممتد منذ زمن البابليين والسومريين والآشوريين وهم السكان الأصليون للمنطقة التي ظهرَ فيها المسرح (الحسينيّ) نفسه، فتذكر المكتشفات الآثاريّة لهذه الحضارات أنَّ هناك استعراضًا مسرحيًّا سنويًّا لكلِّ حضارة وينطلق أحيانًا من المعابد، فمثلاً يقام استعراضٌ سنويٌّ في بابل تمرُّ فيه المواكب من بوابة عشتار الشهيرة وهذه تعدّ من أوضح السلوكيات الدراميّة المنظّمة. ويمكننا أن نستند إلى رأي الدكتور "عمر الدسوقي" في مؤلفه "المسرحية نشأتها وتأريخها وأصولها" فهو يرى أنّ التمثيل كان في أول الأمر في الكنيسة، ثم صار الناس يقتبسون هذه المسرحيات الدينية ويمثلونها خارج الكنيسة في عيد الميلاد، أو في عيد الفصح أو غيرها من الأعياد الدينية، وكان المسرح في لندن متحركا على عربات، كل عربة تمثل منظراً، وتمر أمام الناس (كما يفعل أصحاب الحرف عندنا اليوم في الأعياد الدينية بالريف) أما في القرى حيث الفضاء والسعة فكان المسرح يقام ويقسم على عدة مناظر والناس يرون أمامهم ص:7" ويمكننا أن نعد المسرح "الحسينيّ" هو تجسيد الملحمة المأساوية من جانب أنها تلتقي مع الملحمة بشكل عام، بغياب كاتبها الحقيقي، بل إنّ كاتبها مجهول كما في الملحمة الأسطوريّة، وانّ الشعب هو الذي يقوم بكتابتها استناداً إلى بعض الروايات التاريخيّة فيضيف لها من خياله الشعبيّ
والمحليّ أو يحذف منها أحيانًا تبعًا للظروف السياسيّة والاجتماعيّة أو بسبب البيئة التي تنطلق فيها إقامة تلك الطقوس.