مناجاة في رحاب عاشوراء
ثقافة
2020/08/30
+A
-A
علي السعيدي
"الحسين أكبر من الحياة، ولعله لكبره وعلوه خارج الدائرة التي يمكن للمرء ضمنها أن يتوحد مع البطل رغم تطلعه إليهِ ولذا يكون التعبير الفني عنه قاصراً على مداه الفاعل".(جبرا إبراهيم جبرا: جدلية
المأساة - الحر الرياحي).
"في هذه الملحمة الفاجعة، ملتقى لكل القيم المثلى، فهي ثر النبع الذي يرتوي منه كل ذي مبدأ، يريد أنْ ينتهج في هذه الحياة نهج الكرامة، وينتصر للحق المهتضم، ويسترد للانسانية حقها المهدور، ويبلسم منها فاغر الجراح وهي على نزيز، ويجبر الكسور منها والرضوض.." (عبد الله الخنيزي)
"قد قال لي يوماً أبي
إنْ جئت يا ولدي المدينة كالغريبْ
وغدوت تلعق من ثراها البؤس
في الليل الكئيبْ
قد تشتهي فيها الصديق أو الحبيبْ
إنْ صرت يا ولدي غريباً في الزحامْ
أو صارت الدنيا إمتهاناً.. في امتهانْ
أو جئت تطلب عزة الإنسان في دنيا الهوانْ
إنْ ضاقت الدنيا عليك
فخذ همومك في يديك
واذهب إلى قبر الحسين
وهناك (صلي) ركعتين
(الشاعر المصري فاروق جويدة / من قصيدة (بالرغم منّا.. قد نضيع)
سلام عليك سيدي أبا الأحرار....
لن أتكلم في ذكراك عن تاريخ ولادتك ليقيني أنك كنت في ضمير الوجود ولادات لكل ما هو جميل وجليل ولكل ما هو أزلي وأبدي وسرمدي...ولن أتحدث عن لون خاتمك وما الذي كان منقوشا عليه، ليقيني أننا عاجزون عن فهمك ، وأعجز عن معرفة كلمة السر للدخول لمملكة حبك
الفردوسية.
ولن أتكلم عن رحيلك المأساوي لسببين وجيهين بنظري، أهمهما أنَّك أكبر من الدنيا, كما وصفك جبرا في بعض ما كتب عنك، بل أنت عندي أكبر من كل معاني الحياة وجميع ماهياتها وأشكالها، لأنّك أحد أعظم تجليات الله وصوره وصفاته في عالمنا الترابي هذا، بل أنت جوهر نوره الذي يخترق كل الأزمنة وجميع الامكنة. والسبب الآخر أنَّ من كان بشجاعة قلبك وعظمة روحك وصفاء ضميرك في زمن الطغيان الأعمى والعبودية المفرطة لسلطة مافيات الفساد المشرعنة بفتاوى فقهاء السوء وسلاطين الزمن الرديء، حَرِيٌ به أن يلقي ما لاقيت، بل هو قدرُه الذي كان يعيه تماماً بل يراه رأي العين، بل أكثر من ذلك يجده في الموت السعادة المطلقة في حياة كانت أكثر بلادة وبشاعة من الموت.
لن أبكي عليك سيدي على طريقة الآخرين، مع عدم شكي بنواياهم الطيبة، رغم أنَّ قناعتي تشبه الى حد كبير قول الفذ ألان واتس إنَّ " طريق جهنم معبد بالنوايا الطيبة" ، وكما أن الحب لك وحده لا يكفي فكذلك النوايا الطيبة لوحدها لا تكفي!! ينبغي حين نتحدث عن حبك أنْ نفكر الف مرة كيف نحبك ومليون مرة كيف نعبِّر عن ذلك الحبِّ. فمن الحبِّ ما يكون شيناً عليكم، كما صرختم بالجاهلين والأغبياء يوما، بقولكم : " أحبونا حبَّ الاسلام، ما زال حبكم بنا حتى صار عاراً علينا"!! لم ولن أعبِّر عن حبي لك بالبكاء والضجيج لشعوري أنَّ أحقَ من يجب أنْ نعزيك وانفسنا به هو أنفسنا!! أليس من الجهل والظلم لك أنْ نبالغ بالعويل والبكاء على من هو كل هذه الحياة وكل هذا الوجود بأجمل وأعظم ما فيه؟!
ليت الآخرين يعلمون أنَّ الأوان قد حان لنراجع طريقتنا في التعبير عن حبنا لك، فرغم كل حرصنا المبالغ فيه على أدق المظاهر في عزوات لا حدود لها ليس فيها سوى البكاء عليك وبسخاء ليت أنْ يكون بحجمه حياؤنا منك! ليتهم يمتلكون شجاعة مواجهة الحقيقة المريرة فيسألون السؤال الكبير والخطير: أين مكانك في واقعنا المعاش من ألفه ليائه؟ هل يمكنهم أنْ يجدوك في سلوك معظم حكامنا الاسلامويين الذين سوّدوا وجه تاريخنا بأبشع صور الخراب والفساد وعلى جميع الصُعد، أم هل يمكنهم أنْ يجدوك في حوزاتنا ولدى معظم مرجعياتنا التي أصبح الكثير منها زعيماً أو حاكم ظلٍ لمافيات أحزاب السلطة التي باعت الوطن كي تبيع المواطن وهي مرتاحة البال. أنا لم أجدك في دوائرنا ولا في عيادات معظم الاطباء عندنا ولا في مؤسساتنا كلها ولا حتى لدى النسبة الساحقة من مواطنينا الذين هم طرف مهم في كل هذا الخراب وكل هذا الجهل والانحطاط، بلى سيدي أعترف أنني لم أجد، منذ أن سقط الصنم، شيئاً يذكرني بك سوى لافتات سوداء تكتظ بها شوارعنا البائسة التي تشهد أن من عبدّوها ليسوا أشرف من قاتليك! ولم أر غير ولائم يصل سخاء القائمين عليها حداً يتجاوز الاسراف في حين تشحّ نفوسهم عن توفير وجبة عشاء أو مأوى بسيط لجار يفترش التراب ويلتحف الصفيح في صيفنا الذي يشوي الوجوه.
أعترف لك سيدي وبمنتهى المرارة والأسف، أنَّني لم أجد منك شيئاً لدى معظم المتدينين الذين يدعون أنَّهم وحدهم الذين يعرفونك وهم وحدهم الأدِّلاء عليك والمحامون عن مقامك الذي وضعك الله به، لم أجد منك شيئاً عندهم حين نختلف في الرؤى وبعض السلوكيات، بل لا يتورعون ولا يترددون باتهام من يختلف معهم أو ينتقد بعض سلوكياتهم، التي يرى أنَّها تسيء كثيرا لما أمنتَ به وعشتَ له لحماً ودماً، لن يترددوا أنْ يتهموه بالحرب عليك!
لا أخفيك سيدي أبداً أنني أشعر بخيبة الأمل بمنتهاها حين أجدك تحولت في سلوك معظم الناس عندنا الى معنى مقترن بالسواد في مظاهرهم وحتى في سلوكياتهم! الأمر الذي شغلهم عن الالتفات الى حقيقة أنَّك من بين أعظم مصادر كل هذا الضياء الذي يلف الوجود بأسره! ولأنهم مصرون على فهمك والتعبير عنك بهذه الطريقة، كشأنهم مع معظم رموزنا الحقيقية وقضايانا الكبرى، لا يزال واقعنا يتراكم ظلماً وظلاماً وتخلفاً وانحطاطاً.
لن أبكي عليك سيدي أبداً، كالاخرين، بل أشدّ ما يوجع قلبي ويبكي عيوني دماً حجم القطيعة بينك وبين الذين يدَعون أنَّهم وحدهم محبوك، لعلمي أنَّ حبك ليس مظهراً مهما كان شكله وليس حزناً عليك مهما بلغ مستواه، وليس استعراضاً دعائياً مهما على صوته ومهما كثر المروجون والممولون له والمدافعون عنه. حبك سيدي ليس شيئاً من معظم ما أراه في ما يقوم الناس به في أيامنا هذه.
حبُّك عندي أنْ نقف حيث وقفت معلناً موقفك من الظلم مهما كان نوعه وداعياً للإصلاح مهما كان ثمنه، فأيُّ مفصلٍ من مفاصل حياتنا لا تفوح منه رائحة الظلم وأي مؤسسة من مؤسساتنا لا تفتقر للإصلاح؟! بل وأيٌ منا من يخلو من ممارسات ممعنة في الظلم تجاه من هم في دائرة مسؤولياته في البيت أو محل العمل أو في معظم تعاملاتنا مع الاخر؟!! كيف نمتلك كل هذه الصلافة لنهرب إليك من ساحة المواجهة التي اخترتها، تاركين كل الفساد والمفسدين وراء ظهورنا، ملبين بهذه الطريقة نداء الذين خذلوك دون أنْ نشعر بذلك أو نستحي منه.
لقد اخترت في ساحة الاصلاح ومجابهة الظلم أنْ تقاسي الحرَ والجوع والعطش، أمَّا نحن فأخترنا أنْ نعيش أيام حزننا المزعوم عليك مهرجاناً لعرضْ ما لذَ وطابَ في زمن متخم بمئات الآلاف من المهجرين والجائعين والضائعين! واخترت في طريق الاصلاح أنْ تبذل الأهل والولد وصفوة الأصحاب فضلاً عن نفسك التي هي نفس جدك وأبيك العظيمين، أمَّا نحن فلن نحتمل مجرد قول كلمة حق بوجه أي من الذين يشكلون في واقعنا حصونا منيعة للفساد والخراب والجهل والتخلف.
مفارقة في غاية الغرابة سيدي، أنَّ معظمنا يملأ الدنيا صجيجاً بدعوى حبِّه لك في حين تفصحُ كل نواحي حياته ومظاهر سلوكه أنّه على دين الذين حاربوك. وأجزم لو قدر لك أنْ تعود لنا داعياً كعادتك لاصلاح دنيانا هذه المتخمة بالفساد لوجدت معظم المحبين أشدّ عداوة لك وتربصاً بك من الذين قتلوك!
لهذه الاسباب سيدي عقدت العزم أنْ أواليك كما أفهم الموالاة التي أردتها وأن أحبّك كما أفهم الحبَّ الحقيقي الذي مثَّل منتهى صور وصال المعنى، وأزورك كل يوم ولكن على طريقتي، وأنْ أعيشك سلوكاً، بالقدر الذي أستطيع، في مواقع مسؤوليتي. أقسم بك أنَّني أستحي من عظمتك أنْ أشارك في كل ما يُسهم في قتلك في كل مناسبة، فمعظم خطبائنا يمعنون بقتلك ومعظم الدعاة يسرقون مال الناس وأعراضهم وحتى حياتهم باسمك، ومعظم مؤسساتنا الدينية، وبدلاً من أن تعيش لك، تعتاش
عليك!
لن أبكي عليك أبداً لأنك ليس ممن يستحقون البكاء، على عكس ذلك، فأنا أهنيك بل وأغبطك من أعماق قلبي كونك استطعت أنْ تصبح من الأحياء الذين "عند ربهم يُرزقون، فرحين بما أتاهم الله" حيث غدوت رمزاً كونياً لكل فضيلة وشرف وعظمة ونبل وجمال وجلال. لنْ أبكي عليك أبداً، بل أبكي لأجلك لأنَّ معظم الذين ضحيت من أجلهم ما عرفوك ولن يعرفوك لأنَّك أكبر من الدنيا وأهل الدنيا المتهالكين عليها والغارقين فيها حد فقدان الوعي والذاكرة والاحساس. سلام عليك سيدي بسعة آفاقك ورحابة روحك يوم ولدت ويوم غمرت كل هذا الوجود بضيائك الأبدي
فكنت وستبقى " مصباح هدى وسفينة نجاة".