هل الجزائر فرنسية؟ هل ثمّة من أحبّ الجزائر وضحّى من أجلها أكثر من الجزائرييّن أنفسهم؟ من سطّر تاريخ الجزائر إبّان الاحتلال الفرنسي؟ وما الوشائج الرّاسخة في ذاكرة سيّدات من أصول فرنسية؟ هذه الأسئلة وغيرها تجيب عنها رواية «رعاة أركاديا» الصّادرة حديثًا عن دار»ضمّة» الجزائر (2020) لمحمّد فتيلينه صاحب رواية «قلب أسمر» الحائزة على جائزة راشد بن حامد للإبداع (2019) و «ترائب رحلة التّيه والحُبّ» الحائزة على الجائزة الأولى للرواية الجزائريّة (2020).
يحيلنا العنوان إلى اللوحة الشّهيرة للرّسام الفرنسي «نيكولا بوسان» التي تمثّل رعاة أربعة: ثلاثة رجال وامرأة يحاولون تهجئة عبارة منقوشة باللاتينيّة على قبر حجريّ، مستوحاة من قصّة أسطوريّة وردت في قصيدة الشّاعر الرّوماني فرجيل، تقول: «حتّى في أركاديا أنا موجود». تطرح الرّواية رؤيتين مختلفتين إلى الاحتلال الفرنسي للجزائر: من منظور أركاديا الحاضرة بصوتها، ومن منظور ريموند الغائبة الحاضرة على مستوى الأحداث في الماضي والحاضر، تتعلّق بها خيوط السّرد، وتدور في أفقها. يفتتح مصطفى الأقرع الحكي مخبرًا صديقه أوجي عن حلم جمعه بها، ويبقى طيفها يلاحق الشّخوص في مفاصل الرواية، وأمكنتها المتعددة.
ظهرت ريموند - أو الطّاووس كما كان يحلو لرفاق السّلاح مناداتها- من خلال «رعاة أركاديا» بطلةً جزائريةً، يراها أوجي ومن يمثّل «أشجع من الكثير»، لقد واجهت المظلّيين الفرنسيّين بعبارتها الشهيرة: «كم أنتم متوحّشون وبرابرة» (ص.106) ضحّت بنفسها لكي تعيش الجزائر، في المقابل، تنظر أركاديا إليها على أنّها خائنة لوطنها فرنسا. تطرح الرّواية ثنائيّات عدة: الشّمال والجنوب، الدّاخل والخارج، المدينة والصّحراء، المقاومة والاحتلال،الحبّ والهجْر. فضلًا عن ذلك كلّه، نلمس إشكاليّة الانتماء، وصراع الهويّة في شخص أركاديا المتذبذبة بين الشّرق والغرب، التّائهة التي لم تستطع البقاء مع حبيبها، ولم تجد الدّفء في بلدها الأمّ. يظهر ضياع الهويّة مرة ثانية عندما تُسقط اسمًا أجنبيًّا على حبيبها العربيّ، وتسلخ عنه هوّيته العربيّة، سلبته اسمه وكنيته (الطّالب الحاج)، لقّبته باسمٍ آخر تيمّنًا برسامٍ فرنسيّ يستهويها هو»أوجين فرومنتان»، هي احتلّت روحه وعقله وكيانه وحملَت في أحشائها بضعة منه، لكنّها انسلخَت عنه فيما بعد...
يمكن القول، إنّ أركاديا تمثّل صورة المحتلّ الفرنسي الذي يغزو، ويسيطر، ويقتلع الهويّة من دون رحمة، ويرى أنّه قدّم خدمات إلى المستعمرة الكولونياليّة، وحوّلها إلى بلد متطوّر من خلال إنشاء الجسور، متجاهلًا الأصوات الرّافضة وجوده على الأرض: «وما فائدة كلّ هذا؟ النّاس يعيشون وسط الرّعب بين الحديد والنّار، نحن
في الحرب!».
يترك الكاتب الحرية للشّخوص في إصدار أصواتها، والتّعبير عن آرائها المختلفة تجاه أبناء الجزائر، يظهر هذا الصّراع في دائرة مسرحها مدرسة البنات الابتدائيّة، حيث يتعامل المدير «هنريبودياك» بمحبّة واحترام مع أوجي، في حين أنّ معظم الفرنسيّين، على اختلاف وظائفهم، كانت تتوحّد نظرتهم إلى الجزائرييّن، ويتعاملون معهم بطريقة دونيّة. لكن، في «رعاة أركاديا» ظهرت
صورة أخرى للغربيّ، هي صورة الشّغوف بالصّحراء، المولع بأساطيرها. ثمّة شخصيّة تنهض بالسّرد من أعماق الفلوات، تحيي تعلّق الأوروبيين بأجواء الشّرق وسحره وعطوره؛
بين «زاخاروفا» سيّدة الصّحراء وريموند مشتركات «ينظر كلاهما إلى الدّنيا بغير العين التي ننظر بها»(ص.92) تلك المرأة الأمازيغية تنجح في مداواة «أركاديا» التي عجز عنها أطبّاء فرنسا.
في أحضان بادية «الجلفة»، في خيمة زاخاروفا الكفيفة، وبأقمشتها التّائهة كتيه المفازات التي لُفَّت بها أركاديا فشُفِيَت بعد أن عجز عنها أطباء فرنسيّون، تبدّت جماليّة الوصف، إذ خطّ الرّوائي لوحاتٍ ظهرت فيها صحراء «الجلفة» تنافس «أركاديا» اليونانيّة سحرًا، وباتت هي المقصد والرّجاء. ماذا يريد «فتيلينه» أن يقول؟ العلاج، أين نجده؟ هل يكمن في العودة إلى حياة الفطرة والبداءة المتمثّلة بـ «زاخاروفا» التي يقصدها الأجانب، كما العرب، لتداويهم بالأعشاب الطبيعيّة من أمراضهم المستعصية؟ أم أنّ العلاج يمثل هناك (في الكنيسة-فرنسا) في غرفة الاعتراف بالخطايا بين يدَي
الرّاهب دافيد؟.
هل العودة إلى الرّوح هي سبيل الشّفاء من جروح الماضي؟ وهل الإيمان بالفطرة بعيدًا من الحداثة وتعقيداتها كفيل بتحرير الإنسان من حمولاته وأثقاله؟ استطاعت «زاخاروفا» أن تداوي ندوب «أركاديا»، لكنّها لم تدرأ شبح الموت عن أفراد أسرة الأخيرة، فهزمها بانتزاعهم منها: شقيقتها ريموند، ووالدتها، وزوجها دافيد، وابنها أنطونيو. وبالرغم من ذلك، آثرت ترْك أوجي، واختارت الاتجاه نحو الشّمال، وقفلت عائدة إلى بلاد الصّقيع، وكأنّ الحبيب لم يرتقِ إلى رتبة وطن، بل بقي مجرّد محطّة على خارطة الاحتلال.