محمد عبد النبي: الفن وحده من يحول الواقع إلى شيء متماسك وحي
ثقافة
2020/09/01
+A
-A
البصرة: صفاء ذياب
التفت القرّاء العراقيون والعرب للكاتب المصري محمد عبد النبي ككاتب له خصوصيته، وجرأته التي لا تشبه جرأة الكثير من أبناء جيله، بعد وصول روايته (في غرفة العنكبوت) للقائمة القصيرة في جائزة البوكر
2016.
عبد النبي المولود في العام 1977 حصل على بكالوريوس اللغات والترجمة، وهذا ما أعطاه خبرات أخرى في تجربته الأدبية، فقد ترجم العديد من الكتب عن اللغة الإنكليزية، كما أصدر أكثر من كتاب جمع فيه مقالات، فضلاً عن مجموعات قصصية عدّة مثل: "أطياف حبيسة"، ومجموعة "شبح أنطون تشيخوف" التي فازت بالمركز الأول في جائزة ساويرس الأدبية عام 2010، كما فازت مجموعته القصصية "كما يذهب السيل بقرية نائمة" بجائزة أفضل مجموعة قصصية في معرض القاهرة الدولي للكتاب 2015. فضلا عن هذا أصدر روايته "رجوع الشيخ" التي وصلت إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية في العام 2013.
* حصلت مؤخّراً على جائزة الادب العربي المترجم للفرنسية لجرأتك بكسر المحظور عن روايتك (في غرفة العنكبوت)، كيف دخلت لعالم المثلية في مصر، وما الجديد الذي قدمته عن هذا العالم مقارنة بأعمال سابقة؟
- اختيار موضوع رواية في غرفة العنكبوت أتى عبرَ سلسلة من المصادفات، مِن بينها أنني كنتُ أعمل بالفعل على رواية فانتازية تحكي عن رجلٍ تحدث له حالة حمل عجيبة، بلا أي أسباب منطقية أو عِلمية، لأناقش من خلال حكايته معنى الذكورة والأنوثة، لكنني شعرت بأنَّ ثمَّة شيئا مفتعلا في الحكاية ولم أشعر بطمأنينة كافية لاستكمال المشروع حتَّى النهاية، وكانت المصادفة الثانية الأساسية هي كتابتي لقصة قصيرة من نحو ثماني صفحات للمشاركة بها في أنطولوجيا (على أحد المواقع) لقصص الحب، وكانت قصتي تدور عن علاقة بين رجلين، وفيها ولدت شخصيتي الرئيسة في (العنكبوت) هاني محفوظ، الذي ظلَّ يلح عليَّ لكتابته حتى استسلمت واستبعدت فكرة المشروع الأوَّل تماماً. لا أعرف تحديداً ما الجديد الذي قدّمته فيها. لكن، ووفقاً لبعض الرؤى والكتابات النقدية يمكن القول إن صوت الراوي المثلي الذي يحكي حكايته بنفسه وليس عبر وسيط من راوٍ عليم مثلاً كان عنصراً مهماً، وكذلك تسليط الضوء على القمع المجتمعي والمؤسسي الذي يقع على المثليين في العالم العربي وتدمير حياة بعضهم لمجرد أنَّهم يميلون للنوع نفسه. ومن ناحيتي لا أدَّعي أنّني قدمت شيئاً جديداً، ويكفيني دائماً أن أكتب عملاً ممتعاً ويقول شيئاً مهما بالنسبة لي، لأنَّ العمل الصادق دائماً جديد في ظني. على جانبٍ آخَر، الكتابات الجريئة التي تكسر المحظورات والمكتوبة باللغة الفرنسية لكتَّاب عرب كثيرة، ولعلَّ بعضها كان مرشحاً لجائزة معهد العالَم العربي بباريس. لا أظن أن الجرأة وكشف المستور هما المعيار الأساسي لإنجاح عمل أدبي وخصوصاً في الغرب، لأنَّ سلتهم ممتلئة بهذا النوع. ثم ما أكثر مجانين الشارع الذين يتعرّون ويصرخون بمنتهى الجرأة ولا يفترض أحد أنّهم يقدمون فناً.
* في هذه الرواية اعتمدت على المتكلم في السرد، وكذلك في مجموعتك (كان ياما كان)، هل إن موضوعة الكاتب التي تؤدي به لاختيار الخطاب، أم أنه تقنية خاصة لكل كاتب؟
- اخترت الضمير الأوَّل، أو صوت البطل لرواية العنكبوت لكي يشعر القارئ بالقرب الحميم منه وبالتماهي مع حكايته، فلو كنت استخدمت الراوي العليم مثلاً لشعرت كأنّنا في حالة تلصّص على شخص ما، أمَّا الدخول إلى أفكاره ومشاعره الصغيرة والحرجة فلم يكن ليتاح إلَّا باستعارة صوته. في قصص مجموعة (كان ياما كان) أكثر من ضمير مستخدم، وفقاً لطبيعة الحكاية واحتياجاتها الفنية. فالمسألة مزيج بين ضرورات الموضوع وبين تفضيلات تقنية.
* أغلب النقاد يتحدّثون عن السياقات الثقافية التي أنتجت الرواية المصرية، لكنك كروائي شاب، فضلاً عن طارق إمام وسعد القرش وآخرين كثر قدمتم أعمالاً ابتعدت عن سياقات الرواية المصرية، فهل يمثل هذا الخروج سياقاً آخر؟
- لا أدري بالضبط ما المقصود بالسياقات الثقافية للرواية المصرية، فإذا كنا نتحدث عن الظروف الاجتماعية والاقتصادية المحيطة بعملية الإنتاج الثقافي فهذه لا سبيل للخروج منها لأنّنا لا نكتب مِن العالَم الآخر، بل مِن هذا العالَم بكل مشكلاته وتناقضاته وأزماته. أما إن كان المقصود الرواية ذات الطبيعة المصرية فهذه مشكلة أخرى لأنَّ هناك عشرات الأعمال لها صبغة مصرية تتراوح في خياراتها الفنية ما بين التاريخ والتوثيق والواقعية الصرفة والفانتازيا، إلى آخره. فعن أي سياق للرواية المصرية نتحدث، يمكن لروائي مصري شاب الآن يميل للتوثيق الصحفي أن يجدَ له سلفاً في أعمال صنع الله إبراهيم، ويمكن لآخر يميل للفانتازيا والتجريب أن يجد سلفه في محمد حافظ رجب ويحي الطاهر عبد الله وآخرين، ويمكن لمن يميلون للكتابة الواقعية أن يجدوا لدى محفوظ ذخيرة تسند ظهورهم. هذا كله، وغيره، يندرج في سياق الرواية المصرية، لكنه لا يحيط به إجمالاً.
* الحياة المصرية رواية جاهزة يتحرّك الكاتب من خلالها بحرّية تامة، وربّما هذا ما جعل الكثير من الروائيين يقتربون من الحكواتية أكثر من الفن الروائي.. كيف نفهم هذا الامر؟ وما المهم في بناء الرواية؟
- بل الحياة عموماً رواية جاهزة، وليس في مصر فقط، ولكنها رواية فجَّة غير مصقولة ولا مشذّبة، رواية مضجرة ومهلهلة وتكاد تخلو من المفاجآت، مآسيها بلا مذاق وبلا معنى وأفراحها عابرة وسطحية، الفن وحده يقدر على تحويل تلك الرواية إلى شيء متماسك وحي أكثر من الحياة نفسها. لذلك فهناك مَن يقتطع بضعة من الحياة مباشرة ويضعها في كتاب، مكتفياً بهذا الجهد، على اعتبار أن السرد حكاية أو أن الفن والواقع شقيقان توأمان، لكن الفن ليس شقيق الواقع بل هو ظله وعفريته وشيطانه الذي يستلبه ويحوله ويستخدمه لأغراضه الخاصة، هكذا قد تُكتب الرواية بناء على الحكاية، لكنها لا تكتفي بها بالمرة، وقد لا تستعين بالحكاية إلَّا بأهون قدر ممكن، عن نفسي مازلت شديد الإيمان بقوّة وقيمة الحكاية، وهو ما اتضح في مجموعتي القصصية الجديدة (كان ياما كان)، لكن السؤال ماذا نفعل بالحكاية وكيف نرقص معها رقصة الفن؟ * لم تتوقف عند كتابة الرواية، بل خرجت إلى الرؤى والمقالة، فضلاً عن الترجمة، أين يجد محمد عبد النبي روحه في كل هذا؟ ولماذا؟
- الترجمة كانت ولم تزل مصدر دَخلي الأساسي، صحيح أنني أستمتع بها أحياناً، لكنّها في النهاية عمل كما قد يشتغل الكاتب في التدريس أو في الصحافة أو النشر. لكن الكتابة، بكل أشكالها، هي الحب الأوَّل والهوس الأساسي بطبيعة الحال. أميل لتقديم نفسي ككاتب قصة أولاً، لأن هذا هو الأغلب على كتابتي من ناحية الكَم على الأقل ومن ناحية الميل الفني كذلك، ومن وقت لآخر قد أتورَّط في عمل روائي وكأنما رغماً عني. صرت أكثر انفتاحاً على الكتابة بمعناها العام، الكتابة الأدبية غير المندرجة تحت نوع فني محدد، وصرت أجد في كتابة بعض الموضوعات متعة لا تقل عن متع السرد واللعب الأدبي، لهذا فأنا سعيد بأنني جمعت بعض تلك المقالات ورتبتها في كتاب بعنوان (قوارب ورقية) واتفقت على نشره مع دار الكتب خان، ولم أزل أكتب المزيد من الموضوعات ذات الطبيعة الأدبية العامة التي تتيح لي تحرراً من اشتراطات النوع ومطالب السرد، كما تمنحني الفرصة للتفكير باللغة في أشياء كثيرة ربَّما ما كنت تطرّقت لها لو اكتفيت بالقصة والرواية.