الثقافة.. انتاج معرفة، معرفة تصلنا عن طريق المتعة والجمال، واذا جردت المتعة من منفعة المعرفة، أصبحت كمالية وعابرة وهامشية.
هذه المتعة، من شأنها ان تحقق قميتها لدى الآخر، أما سواها. فلا شأن لنا به، وان وجدت في متناول الجميع، فهذا لا يعني انها من الاهمية بحيث تحظى باهتمامهم، وانما أنشئت اساساً في مخاطبة ومغازلة وكسب ود الآخر دون سواه. وهذا مانجده تحديداً في هذا الكم من (الكتابات النقدية) التي تتنشر في الصحف والمجلات ومن ثم تتحول الى كتب! فما ان يتلقى احد هؤلاء (الكتبة) مطبوعاً من صديق، حتى يتحول في اليوم التالي الى ناقد للقصة والرواية والشعر والبحث على حسب طبيعة الكتاب المهدى اليه، وبات معظم (نقادنا) لا يتناولون (بالنقد) سوى الكتب التي تُهدى اليهم ويخاطب إهداؤها وجدانهم، ومن ثم يصبح صاحب المطبوع الذي طبعه من ماله الخاص، كاتباً وشاعراً وقاصاً يتجاوز في (عطائه) كل المبدعين العرب والاجانب، في وقت لانجد عندهم جملة يمكن الركون الى صحة لغتها وجدتها ومضمونها وشكلها.
هذه المحاباة في النقد، من شأنها ان تخلق جيلاً من الكتاب الذين ينظرون الى انفسهم بنرجسية عالية، وأنانية مفرطة، وكبرياء زائف كما أن هذه الاساليب الاخوانية بالكتابة، تعيق حركة التطور في الحياة الثقافية، بل وتسهم في شللها وسكونها وانكماشها على ذوات اصحابها حسب، وماعداهم لا أهمية له ولا قيمة لإنتاجه. وفي مثل هذا الحال، تتحول (المعرفة) الى سلعة تباع وتشترى بالمجاملات الاخوانية والجلسات الصداقية الحميمة التي لاتنجز ثقافة واعية تسهم في الرقي بالمجتمع، ولا تعنى بالوعي الذي يحتاج اليه كل متلقٍ للثقافة التي تعد زاداً ذهنياً ضروريا لاستيعاب صفحات الحياة بكل ما فيها من شؤون تبسط ظلالها في النشر وفي الندوات وفي اجهزة الاعلام والتواصل الاجتماعي، وتنقل مساحة الرعاية والاهتمام الخاصة، لتتحول بعدئذ الى كتابات متبادلة..
هذا يكتب عنه اليوم، وبعد ايام يبادره الآخر نخب الكتابة الودية رداً للجميل! وعندما تتجمع سلسلة المقالات الاخوانية، يظهر (متعهد) ثالث لاصدار هذا الكم من كتابات المودة الى كتاب يباهي نفسه بانتاج كاتب موهوب لاترقى كتاباته الى مستوى النشر في مطبوع محترم ومتخصص يحرص اصحابه على وزنه وثراء ماينشر فيه. ان هذه الطرق التي يلجأ اليها عدد من دعاة النقد، مخادعة للكاتب الذي يمكنه أن يتطور وتزدهر كتاباته، الا ان كتابات الثناء والتمجيد الزائفة تجعله يركن الى السكون والتكرار والاستهلاك، ومن ثم تصبح مثل هذه الكتابة إساءة مكشوفة للناقد وللكاتب والقارئ على حد سواء.
إن الكتابة النقدية، كتابة أخلاقية أولا، وكتابة موضوعية لها اصولها وحرفيتها وقناعاتها وبراهينها التي تسهم مساهمة فعالة في بناء ثقافة وطنية مسؤولة ونبيلة في تحديد مايراد من النقد وقطاف ثمار من قبل هذا الثلاثي الفاعل والمؤثر (الناقد والمؤلف والقارئ)، واذا اختل هذا الثلاثي عن مصداقيته، تحولت الثقافة عموماً الى خطاب أجوف ومغلق عابر وناقد
وزائف.