جبار النجدي
ينطوي سكون الصحراء على معانٍ مجهولة لا يدركها سوى محترفي التنقل في البراري ومتاهاتها..
يشق البدوي طريقه بتمهل ويقلب ببصره إتجاهات المكان، ثم يسير على هدي الفطرة وغريزة الاهتداء التي تقع خارج توقعات أي منطق ومن دون أدنى احتمال للخطأ..
لا أحد يضاهي البدوي من جهة ترفقه ببدنه، إن نحافته مفرطة بمعايير الزهد الغذائي فهو لا يأكل إلا بمقدار مايسد خلة الجوع وخضوع النفس إلى اشتراطات قاسية، إنه عظيم الثقة بالنفس لايضارعه في الصبر أي منازع وهو يسير في عرض الصحراء ووعورتها..
أمام البدوي على الدوام رحلة طويلة وقاسية وقد لا يصل إلى أي مكان، إن حياته تجوال دائم ليس فيه بداية ولا نهاية ولايقصد مكانا بعينه؛ الصمت هو الأساس اللساني لحكمة البدوي وعلامة إدراك لشيء محتمل وهي هبة من هبات الصحراء وحكمة بليغة حينما يصبح الترحال هو المستقر والسير على حد سواء مماثلا لمستوى ما تتحمله العشبة البرية من الجفاف الذي هو ثروة الصحراء، بل يشترك معها بدرجة التساوي، غير أن العشبة تعيش حياة قصيرة وقاسية ولاتحظى بالبقاء طويلا، في حين لا حدود لوجهته، يستمد البدوي قدرة السير ليلا عبر معرفته بالكواكب ومعاني الأرقام والنطق بالقصد ووضوح البرهان، يحاور الصحراء فإن لم (تجبه حوارا أجابته اعتبارا)، لا مسقط رأس له في بيوت الشعر المتنقلة هنا وهناك ووسط البحر المتلاطم من الرمال، ومع ذلك يعثر على المخرج السهل من الموت عطشا عبر مايخلقه السراب من لعبة الصبر التي تنأى ولا تستقر فمن دون السراب يصبح البدوي أقل حظا في مواجهة الظمأ، لدرجة أن السراب يصبح أكثر أهمية من الماء نفسه وأمرا قابلا للتصديق حين يغدو الجفاف مصدرا لممكنات الحياة ومسطرا في المعجم النباتي لعشبة برية، فالبدوي يهتم دائما بإعادة إنتاج ظمئه من جديد عبر لعبة الصبر التي بوسعها أن تديم الخدعة المائية للسراب التي تقوم على تغييب صورة العطش ومن ثم مواصلة المسير في مناحي البرية من دون أدنى احتمال للخطأ، إنه يسير بخفة بالغة وجسد نحيف مثل صورة الظل الذي يسبق صاحبه، أمام البدوي على الدوام رحلة طويلة وقاسية هي أقرب الى التطواف الذي لا ينتهي ليبدأ من حيث ينتهي مرة بعد مرة، فهو بارع في حبس الجوارح وتجرع البلية وإلزام النفس على القناعة المكتنزة في سنام جمله وسحر المسير بلا نهاية، إن صمت الصحراء لا يعني عطالة الكلام بل هو عنصر لغوي يقع في أعلى مراتب الكلام الموغل في أصل البداوة التي تنزع إلى استكراه التكلف، فالبدوي يستكمل معناه من مجهولية الصحراء فالعشبة مثلا التي تعيش حياة قصيرة قاسية ولاتحظى بالبقاء طويلا تقدم مشهدا نادرا لحصافة البدوي، إنها تذبل بمجرد أن تمسها ريح لاهبة وهي بذلك تفصح عن درس بليغ للبدوي يتعلق بعجالة مصيرها، في حين يذهب البدوي إلى حيث ماتدعوه متاهة الصحراء، إنه يمر من وجود صامت إلى حالة ناطقة بمقدورها أن تحادث الأشياء وتستنطق الأمكنة ليكون الصمت وهو إدراك لشيء محتمل وحدث يجري في معرض الكلام ولايعني عطالته..
إن المكان في الصحراء هو شيء آخر غير الأرض، إنه أكثر الأماكن قفرا، فلا يمكننا الأحساس به إلا عبر مشاعر العزلة، إذ بإمكان فطرة البدوي أن تختلط بشيء خرافي من الكلام وستار خرافي يجعل الصمت أبلغ نطقا..
إن البدوي يتقن بالسليقة الفصاحة وحسن القول ووجوه تحسين الكلام وإيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة وبضرب من المشافهة الكلامية، فالصمت لديه يمثل أعلى مراتب الكلام، إنه مولع بسحر المسير والتطواف بلا نهاية ولاتضاهيه في هذه الغرابة سوى العشبة البرية التي تعيش حياة قصيرة وقاسية ولاتحظى بالبقاء طويلا لكنها تصر على الانبات فوق حبات الرمل التي يسهل على الرياح بعثرتها مستكملة معناها من مجهولية بريتها، وبالمقابل فإن البدوي لايفرط بشيء سوى الزهد، مفضلا القلة على الإكثار ومعوّلا على مايكتنزه سنام جمله، إن ليله قاع مظلم لكنه موصول بمتعة تساقط الشهب، يجتمع البدوي في حلول النهار بالمملكة الحيوانية ويصيخ السمع لتغريدة الذكور التي تدعو إناثها بلذة وحبور.. على الرغم من قدرة البدوي على تعيين موقعه فإنه يتوقف بين آونة وأخرى ليتشمم الأثر الذي يرسمه الخف الأسفنجي للجمل فوق تيارات الرمال المتحركة، وذلك من شأنه أن يخلف رموزا لمساره وكشوفات مشفرة تمثل ضربا من رسائل التعبير البصري الهادية إلى السبل في الصحراء على الرغم من أنها عرضة للزوال بين لحظة وأخرى من قبل الرياح السافية، إن قدرة البدوي في قراءة العلامات تمثل جزءا من مهاراته ومعنى من معاني مجهولية الصحراء وواحدة من صفات المتكلم بلسان البادية، إذ يلزم من الأثر أن يكون ناطقا وكاشفا عن الكوامن الضمنية للعلامة التي بوسعها أن تتكلم حتى لو ظلت صامتة، إن ذلك يمنحها غموضاً وأسراراً.