ياسين النصيِّر
أثيرت أكثر من مرة، قضية الأدب العراقي في الداخل والخارج وإشكالياته بعد وقبل حربي الخليج، وبما أن العراق الطرف الأساسي في كلا الحربين، فهو، وحده، الذي يستوجب المعاينة النقدية لمفردات كبيرة في بنيته ومنها
أالاقتصاد، السياسة، الثقافة، المجتمع المدني، الهيمنة العسكرية منذ عام 1985، عدم وجود دستور متكامل منذ ذلك التاريخ، غياب الحياة البرلمانية، غياب التعددية السياسية.. الخ. وما دمنا هنا، معنيين، بالجانب الثقافي، فالأمر يشمل أيضًا الجوانب الأخرى، للترابط المنهجي بين كل المفردات، حتى وأن تباعدت بحثيًا، ودلاليًا. ومستقرئ تاريخ العراق، لم يجد هذه الفترة مغايرة كثيرًا، لفترات سابقة في تاريخه، وان اكتسبت حيثيات معاصرة، خضعت لمعايير دولية وإقليمية، ففي العهود العباسية، وما تلاها، نجد المشكلات ذاتها تأثيرات الدولة الصفوية، الدولة العثمانية.. الاحتلال المغولي، سقوط بغداد.. إلخ. على بنية وتركيبة الثقافة والمجتمع، ولكن كانت كل تلك الحالات تتركز في الحاضرة العراقية (بغداد) أولا، ثم في بقية بقاع وأمصار الدولة العربية الإسلامية ثانيًا. أما اليوم، فالأمر أكثر تعقيدًا، وأشد إرباكًا، بعد ان دخلت الأوضاع الداخلية ضمن أجندات الدول الاستعمارية ومخططاتها للاستيلاء على ثروات العراق، فقد أمسى ما يحدث في العراق، تجد صداه في العالم، وما يحدث في العالم، تجد صداه في العراق، وهذا وحده يجعل أي فعل إقليمي، فعلًا دوليًا. ولأنه العراق كان وما يزال قطب اهتمام خاص في العالم، فما يحدث فيه لا يخصه فقط، وان حاول الحكام العرب، جعله خاصًا به، إنما يخص مكونات الخطاب العربي كلها، ولسنوات طويلة، خاصة بعد عام 1958، أثبتت الأحداث أن مايحدث في العراق يؤثر على
المنطقة كلها.
في مجال الثقافة، يجري الحديث عن أدب للداخل، وآخر للخارج، أو أدب ينتج في الداخل، وأدب ينتج في الخارج، وهذا وحده يثير إشكالية الضفاف المتعددة لأدب عراقي أريد له أن يعيش حالة الإرباك العام التي أصابت العراق كله. إلى الحد الذي حدا بأحدهم للقول إن أدب الداخل كله خواء، وقال آخر إن المثقفين قد فقدوا قضيتهم لأنهم لم يدركوا ما وراء مثل هذه التحولات. وكنا، ولفترات طرفًا في مثل هذه المحاورات التي أفرزت تصورات بحاجة دائما إلى
مراجعة، وفحص.
قلت سابقًا، وأقولها من جديد، ليس ثمة «أدب للداخل وادب للخارج» وليس ثمة «ثقاة للداخل وأخرى للخارج» ففي العراق ثمة من يميز انتاجا عن آخر بدرجة قربه او بعده عن مشكلاته الاجتماعية والسياسية، ودائمًا هناك أدب عراقي واحد، يكتب في مكانين مختلفين، كانا متباعين سابقا، ولكن العولمة الاتصالية جعلتهما مكانا بضفتين؛ لذا لم يعودا متباعدين بحكم وسائل الاتصال اليومي والتبادل السريع وان كان ما يصلنا - يوم كنا في التسعينيات - من الذي يكتب في الداخل معدومًا، وهذا ما يجعل أي تصور عن أدب الداخل ناقصًا، فالأمر في الداخل وخاصة في فترة الثمانينيات والتسعينيات، مهيمن عليه من قبل أجهزة ثقافية ذات ايديولوجية سلطوية، كانت تمارس هذا الدور من خلال حضور الرقيب، وما زالت تمارسه من خلال الحصار مضافًا
إلى الرقيب.
والذين عاشوا تلك السنوات شعروا كم هو حجم الرقابة واضحًا على كل شيء. ومع ذلك كان ثمة انتاج ثقافي واسع. لذلك يبقى الحديث عن أدب الداخل بعد 2003 غير أيضا لأنه مايزال يرث التركيبة العقلية السابقة، خاصة مع مجيء عدد من غير الكفوئين لمسؤولية مؤسسات الثقافة، خاصة بعد 2005، لذلك لا يمكننا الحديث عن أدب الداخل وكأنه كان يسير بوتيرة تصاعدية ونوعية، فقد هيمنت عليه النزعة العسكرية واصبح بعض الأدباء (مع الأسف أن هذا البعض كان كبيرًا) جزءًا من الفيلق الثقافي المحارب. أما الانتاج الأدبي في الخارج، فلم يكن كله مؤسسًا على بنية «مؤسساتية» وإنما مؤسس على بنية «فردية» هي حصيلته لمجموعة من الاشخاص رأوا ان سكوتهم عن الانتاج الأدبي ضياعًا للثقافة العراقية، فاصدروا كتبًا، وعددا من الصحف واهم مؤسسة كانت مؤسسة المدى التي رعت الانتاج الثقافي داخليًا وخارجيًا، فتأسست رؤية الأكثرية من الأدباء المهاجرين ضمن منطق انهم يكتبون وهم في الخارج. ليصبح الحديث عن الأدب الذي يكتب في الداخل أكثر انتمائيا للعراق من الأدب الذي يكتب في الخارج. فتأسست في ضوء ذلك ظاهرة ادبية ان ما يكتب في الداخل أكثر ارتباطا بمحيلاته العراق ومشكلاته، وما يكتب في الخارج يكون أكثر ارتباطا بذاكرة الكاتب
وتجربته.
في ضوء ذلك نطرح هنا، جملة تصورات جديدة، علّها تفيد أي نقاش منهجي، يراد منه تسليط الضوء على أبعاد الإشكالية التعددية، وليس على رأي فرد، أو اتجاه، وأرجو مخلصًا، أن لا يدلي بدلوه، من يضع نفسه قطبًا دون الآخرين.
إننا نتحدث هنا عن ظاهرة، لم تنتج خطابا واضحا للثقافة العراقية، وكل ظاهرة لا تتكون من انتاج فرد، أو حتى من انتاج أفراد لم يشتركوا في خصائص إبداعية مميزة تميزهم وتؤسس لخطاب يمكنه ان يكون معنيا بهوية الادب العراقي كله. .. فما أثاره، البعض أن وجود شريحة أدبية مهمة، وكبيرة في الخارج، كفيلة بان تكون هي من يشكل هوية خطاب الثقافة العراقية، وهذه الشريحة تركت العراق جراء القمع الثقافي والسياسي، وان من يتجاهل مثل هذه الحقيقة، لا يمكنه أن يصل بالحوار إلى نتيجة منطقية تخص الأدب العراقي كله، كذلك من ينعت أدب الداخل كله، بأنه أدب سلطة، فهو على وهم أيضًا.. إذ ليس من المعقول أن يصبح الـ (4 ملايين) شخص الذين غادروا العراق، تهجيرًا، ونفيًا، وهربًا، بديلا عن ملايين العراقيين الذين ارتضى بعضهم العيش قسرا تحت ضغوط مختلفة.. لذا فالثقافة العراقية تعيش حالا شاذة، ومؤقتة، وعلينا أن لا نقف عند هذه الحال، إلا من خلال تشخيصها ومن ثم العبور إلى جوهر العلاقة بين الثقافة وبنية المجتمع الذي ننشده.