(أغنية شخصية) أول ديوان للشاعر العراقي المغترب سلام دَوّاي، صدر عن دار الروسم/ بغداد، يضم مجموعة من قصائد النثر تعكس سمات هذا النوع من الأدب الذي استسهله بعضُهم – وهو صعب – فأصبحت تطالعنا كتابات كثيرة باسم هذا الجنس، وعند غربلتها لا نجد فيها سوى خواطر، أما سلام دواي فقد احتل مكانة تليق بابداعه، بشهادة نقدية بعيدة عن الأغراض الشخصية والنقد الأخواني، اذ كتب مقدمة ديوانه الأديب الكبير سامي مهدي، مع أنه لا يعرفه شخصياً إلا في فضاء الكون الافتراضي، كما أفرد له الصحفي البارع حسن جوان صفحة كاملة في جريدة الصباح، وهي صفحة لا تعطى إلا لمتميز، ليجيب عن أسئلة ذكية مركزة تلقي الأضواء على ابداعه وفهمه الذي ينتزع إعجاب المتلقي انتزاعاً (1)، وسلام دواي كما وصفه سامي مهدي: (ينظر الى العالم والى الأشياء من حوله نظرة شعرية، حتى لتظن أنه يستطيع أن ينشيء قصيدة من أي شيء ومن اللا شيء، وكأن الشعر عنده ضربٌ من الهذيان التلقائي) ص6، فالشعر هو المهيمن على خيال وعقل وعيش سلام
دواي :
(الشعر مهمة خطيرة/ النزول الى كهف نفسك/ كالصعود في مركبة فضائية) ص74. هذه هي معاناة الشاعر الحقيقي مع الشعر، ولذلك لا أظن المتنبي إلا مُناقضاً نفسه عن قصد ووعي له ما يبرره حين قال: (أنام مِلْءَ جفوني عَن شواردها) إذ لا بد أنه كان يتقلى بنار الشعر ويتقلب على جمره حتى يجود بهذا الابداع الذي خلّده، وسلام دواي اتفق مع المتنبي في عموم المعنى في التعبير عن مكابدة الشاعر مع شعره، والفرق بينهما في الصورة واللغة، فكلٌّ كان ابن عصره صورة ولغة، فصور ولغة سلام ينتميان الى عصرنا، وهو شاعر له بصمته الخاصة المختلفة عن شعرائنا المعاصرين له – كما يرى سامي مهدي-، وقصيدته تأتي حاملة شعريتها في داخلها بتموجات خياله، وغرائبه، وحيرته وأحيانا بتعثره ووقوعه في الابهام، كما في (كلب وغيمة) ص11 و (ما أطلبه)
ص111:
(ريح تكفي لهزها، هذا ما تطلبه الشجرة حين تشعر بالضجر/ والفتيات من الموسيقى في نهاية الاسبوع/ وأنا منك حين أشعر بالضجر)، فالمتلقي يشعر أن ثمة شيئاً مفقوداً وما من لمحة أو إشارة تقوده الى الامساك بذلك المفقود، وهذا الابهام نادر في الديوان، لأن أغلب نصوصه تأتي مستوفية شروط قصيدة النثر من إدهاش وايجاز وتماسك يمنحها ألقاً وكأنها قطعة بلور كما ترى سوزان بيرنار، ونصوص الديوان تسعف كل من يريد شاهداً، ففي نص (جنون) يقول :
(سيصادفك الجنون مرة واحدة فقط/ إن ذهبت معه ستصبح مرحاً/ مثل عصفور يلعب برأس شجرة/ وإن لم تذهب ستصبح عاقلاً مثل شجرة/،) فالنص غاية في التماسك والحداثة، فالجنون ليس بالموضوع الشائع شعرياً، وتعريف الجنون غريب وعميق منح النص جمالاً، فالإنسان إذا ما تحرك ورفض السكون فسيكون كعصفور يلعب برأس شجرة متمتعاً بحريته وأفقه المفتوح، واذا لم يتحرك فسيبقى بارداً برودة العقل والمنطق، وكأنه شجرة ثابتة في مكانها، فاقدة حرية الحركة، هذه الصورة بسيطة في صياغتها عميقة في معناها أخرجت النص من عالم النثر الى عالم الشعر، والنص مشدود أوله بآخره ولا تكتمل الضربة الشعرية إلا مع آخر جملة، ولذلك نجد أن كثيراً من النصوص تبوح بسرها عند آخر جملة، وكأن الشاعر يريد أن يقول لنا أن القصيدة وحدة واحدة لا تتجزأ، تدخل أعماق نفوسنا مثل (جلمود صخر حطَّه السيل مِن عَلِ)، فتستمتع به النفس لأنه جديد طريف، كما في قوله:
(... ومزاجي يتلون باستمرار/ مثل حبل غسيل في مدرسة داخلية للبنات/ ثمة غيمة صغيرة، ستنمو من هذا البخار/ ما الذي تخلفه حين تمطر؟/ مَن يعرف سيرى، مثلما أرى، ويبتسمُ)
هذه أسطر من نص بعنوان: (لماذا أبتسم)، والمتلقي لا يملك إلا أن يشارك الشاعر الابتسام فيبتسم مثله، لطرافة الصورة المتخيلة وجدتها، وهكذا يتحفنا سلام دواي بتموجات الخيال الشعر في كل نص من نصوصه.
1 - جريدة الصباح العراقية / العدد 4768.