محمد الشحتور
يرى (فان دايك) في (علم النص مدخل متداخل الاختصاصات) أنَّ الاستعمال اللغوي ليس إظهاراً لمنطوق لغوي فحسب، بل هو إنجاز حدث اجتماعي معيَّن في أوان واحد؛ وذكر(أوستين) في مصنفه (نظرية أفعال الكلام العامة كيف ننجز الأشياء بالكلام) أن اللغة ليست أداة أو وسيلة للتخاطب والتفاهم والتواصل فحسب، وإنَّما هي وسيلتنا للتأثير في العالم وتغيير السلوك الإنساني من خلال مواقف كليَّة، وبناءً على هذا توجد أحداث كثيرة تُنجَز بنطق جملة أو نصٍّ ما، ويطلق على الشيء المنطوق منطوقاً لغويّاً، أما الأحداث التي تأتي استجابةً لهذا الكلام المنطوق فتسمى أفعالًا لغوية، أو أحداثًا كلامية؛ لأنَّ المقصود النهائي منها أداء الفعل لا الكلام، فـقول المتكلم عمل حقيقي، يضاهي الحدث المادي المنجَز باليد بحسب (التداولية من اوستين إلى غوفمان: بلانشيه).
وقولنا: (سأعيد إليك النقود غداً) لا يقتصر على إنشاء نص سليم من ناحية الصياغة اللغوية فحسب، بل يؤدي إلى إنجاز حدث وفِعل مقصود، هو إعادة النقود، كذلك فإن القول: زوجتك نفسي، هو عقد يؤدي لحدث اجتماعي، هو الزواج وما يترتب عليه.
ويمكن أن يكون لمنطوق واحد سلسلة من الأفعال اللغوية المؤدِّية لإنجازات شتى، فالقول: هل يمكنك أن تفتح النافذة؟ قد يُقصَد منه الأمر، أو الرجاء، أو الاستفهام، أو الاستغراب من المتكلم، وبذلك تُستَعمل اللغة بوصفها نشاطًا تواصليًّا في إنجاز أفعال تواصلية.
والدستور ما هو إلَّا تشريعات عامة ومجردة، تنطوي على مجموعة من الالتزامات والمحظورات، وهي أقوال لغوية ترد في سياق محدَّد وتؤدي إلى إنجاز فعل محدد، له قوة إنشائية ذات أهداف محدَّدة، وأفعال من قبيل (يحظر، ينظم، لا يجوز، تكفل...) ليست ممارسة قوليَّة بين مشرِّعين ومشرَّع لهم فحسب، بل هي سلوك لغوي يتجسَّد أفعالًا تواصليَّة بين منتجي النص الدستوري والمخاطَبين بأحكامه، ويُظهر نمطًا ونشاطًا اجتماعيًا استجابة لتلك الأحكام؛ فالمقصود من هذه الأقوال هو التأثير الذهني أو السلوكي بالمخاطَب.
وحتى العبارات من قبيل المادة (94 )من الدستور «قرارات المحكمة الاتحادية العليا باتة وملزمة للسلطات كافة» أو المادة 3 «العراق...عضو مؤسس في جامعة الدول العربية» ليست أخبارا يمكن أن توصف بالصدق أو الكذب فقط، إنما هي أفعال إنجازية يجب على المخاطَبين بها تنفيذها، عبر سلسلة من الأفعال والالتزامات التي تقتضيها، وعلى سبيل المثال فإنَّه لا مناص عن تنفيذ قرارات المحكمة الاتحادية العليا، سواء ما صدر وما قد يصدر، وكذلك الالتزام بقرارات جامعة الدول العربية والتقيد بهما بسبب هذين النَّصين، كذلك فإن المادة 45/ ثانيا التي تنصُّ على «النهوض بالقبائل والعشائر وتهتم بشؤونها» اعتُمدت بين عامي 2006، و2014 لتأسيس مجالس إسناد عشائرية في العراق كلِّه عدا كردستان العراق، وهي مدعومة مالياً وقانونياً من أرفع جهة تنفيذية دستورية، هي (مكتب رئيس الوزراء).
فلا يجوز والحال هذه قَصْر الإنجازية -التي تعني القول الذي يتحول لعمل- على أفعال مثل:(يجب، لا يجوز، يكفل) من دون غيرها.
ولما كانت وظيفة النص الدستوري التي يتحقق بها التواصل بين المشرِّع والمشرَّع لهم تتطلب اتخاذ موقف محدَّد تجاه شيء ما، أو إنجاز أو عدم إنجاز فعل معيَّن، وكان النصُّ مكوِّنًا من مكوِّنات السياق قي ظرف محدَّد، فإن إنجازيَّة الفعل الكلامي النصي إنما تتحدَّد في إطار السياق الذي يتمُّ فيه الحدث اللغوي، فإذا لم يتوفر السياق وظروفه كان النص غير مطابق لمقتضى الحال، ومن ثَمَّ لا يكون فعل الكلام النصي إنجازياً.