هل فعلاً تُنضج السنين بحكم التجارب أفكارنا؟ إن صح ذلك فلماذا إذن تحدث القطيعة بيننا وبين الأجيال؟ لماذا ننظر بعين الماضي فنسحبه بكل ثقله على الحاضر كما لو أننا مازلنا نعيش بذلك النزق الطفولي وندعي بأننا حكماء لمجرد أننا عشنا أطول مما عاشه الأبناء والأحفاد؟ صراع الأجيال سيبقى ثابتاً يحول بيننا وبين عقد صداقات وفهم متغيرات لم تكن في زمننا، ويترتب على ذلك تغيير مصائر لا نتبناها ولا نتمناها للأجيال الجديدة، وهل سننجح في مسعانا لتقريب المسافة والعيش بهدوء ورضا مؤمنين بأن لكل جيل متطلباته ومتغيراته شئنا أم أبينا.
هذا ما تطرحه الكاتبة الإيطالية سوزانا تامارو في روايتها (إذهب حيث يقودك قلبك) بترجمة الدكتورة أماني فوزي حبشي، وإصدار المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت، وسوزانا تامارو من مواليد 1957، أصدرت أكثر من عشرين كتاباً، وتُرجمت رواياتها لأكثر من ثلاثين لغة، درست الإخراج السينمائي ولديها أنشطة اجتماعية في مجال البيئة.
"إذهب حيث يقودك قلبك" رواية مبنية بتقنية اليوميات أو الرسائل، من جدة لحفيدتها، لعلها تعود ذات يوم فتقرأ هذه اليوميات وتكتشف ما لم تكتشفه عند الجدة التي ربّتها ورعتها بعد موت أمها ولم تبخل عليها بشيء، لكن الحفيدة قالت لها وداعاً ورحلت الى مدينة أخرى لتعيش حياتها بعيداً عن قيود الجدة.
في تلك اليوميات تحكي الجدة قصة حياتها بالتفاصيل التي لم تعرفها الحفيدة، وتتنقل بالذكريات التي جمعتهما معاً، وبأنها كانت دوماً محبة لها حتى أنها كانت تخفي امتعاضها من بعض التصرفات لئلا تؤذي مشاعر الصغيرة فترحل عنها كما رحلت ابنتها من قبل والتي يعتقد بأنها انتحرت، وسنتعرف على هذه المرأة التي أصابت وأخطأت في حياتها وتعثرت في مشوارها، وتأكدت بعد حكمة العمر أن المرء لا بد له من أن يمضي حيث يقوده قلبه من أجل تحقيق أهدافه، ماذا تنفع تلك الحكمة بعد ضياع العمر؟ هي نفسها، تلك الجدة، تعترف بأنها لم تعش حياتها، ولم تستمع إلا نادراً الى قلبها، كان كل همها أن ترضي والديها وتطبق ما يريده منها المجتمع على الرغم من تقاطعها مع مفاهيم والديها (كان هناك شيء بداخلي يستمر في التمرد، يتمنى أن أحتفظ بكياني، بينما كان الجزء الآخر يريد أن يتأقلم مع متطلبات العالم حتى يكون محبوباً، يا لها من حرب قاسية)
ص75.
لا تتراتب الحكايات بزمن متصاعد، بل تختلط الأزمنة، تذهب الى حياة الجدة منذ كانت طفلة، ثم شابة، بين حياة مفروضة وأمنيات لا تتحقق وخصام مع امها لم يحتدم الا في كبتها، وعلاقات عاطفية متعثرة، لتعود بنا الساردة وتحكي عن حفيدتها التي رعتها بدور الأم والجدة معاً، وحرصت على ألا تكرر الأخطاء التي وقعت بها في الماضي مع امها، ومع ابنتها أيضاً (أم الحفيدة) التي كانت سبباً في موتها المفاجئ حين أعلنت لها بأن أباها الحقيقي ليس هو الذي تعرفه وإنما شخص آخر، ليكون ذلك مدخلاً لحكايات تلك الابنة المتمردة عليها، ولتكرر جفاف العاطفة التي عاشتها الجدة مع امها بذنب ليس لها دخل فيه سوى أنها ولدت في اليوم الذي مات فيه أخوها، فألبسوها وهي رضيعة ثوب الحداد الأسود، وعلّقوا فوق فراشها لوحة زيتية كبيرة لأخيها المتوفي لكي تتذكر دائماً أنها نسخة بلا لون لشخص
أفضل.
لقد وقعت الجدة مثل كثير من البشر في أخطاء كثيرة أرادت أن تصلحها بعد فوات الأوان، وذلك بحب وتدليل الحفيدة التي لن تبخل عليها بشيء، ومع كل ما فعلت تركتها حفيدتها ورحلت، ظاهر الرحلة للدراسة، لكن الحقيقة تقول إنها اختارت طريقها بعيداً عن مكان وزمان لا تنتمي إليهما، حتى أنها لم تفكر بزيارة الجدة أو التواصل معها.
الممتع في هذه الرواية، أن الجدة التي كتبت يومياتها ستكتشف، ونكتشف معها أن المراد من هذه اليوميات هو سد الفراغ الكبير الذي خلفته الحفيدة، وأنها، أي اليوميات، ما هي الا استذكارات لحياة خاسرة عاشتها ولم تجد فيها ما كانت تتمناه، وأنها تحكي عن نفسها وتاريخ أسرتها أكثر مما تحكي عن حفيدتها، فهل إنها تكرر الأخطاء، أم تتسلى لتقتل الوقت وتسد الفجوات ريثما تصل الى آخر محطة من محطات العمر؟ أم أن الحفيدة حين تأتي ذات يوم ستتعرف على مجريات ما عاشته جدتها ولم يسعفها الوقت عند ذاك أن تحضن الجدة وتبدأ معها حياة قائمة على التفاهم والود، لأن الأوان قد فات برحيل الجدة عن
الحياة؟.