أيتها السيدة الأمّة، ما هان لكِ في مواقف العزّ موقف، ويوم عجز الكلام العربي عن أن يكون له معنى، أتمّ صوتكِ كلّ الموقف. صوتكِ الموقف المقاوم، كان معاضداً، كان زاداً؛ كتقوى عارف يمعن بتاريخكِ، فيراكِ الشجرة السرمدية في علم لبنان.. أصلكِ هناك، وفروعكِ ثابتة في أرواحنا.
يا مَن تَشَرّفَتِ الدّنيا وزِينَتها بها، حسْبُ المجد ما يناله من بهاء أسمكِ.. يا فيروز.. يا مجد زمننا. فاتنا من أيامنا الكثير، وتكالب الإكداء والشحّ، وكنتِ أنتِ المنجى في جزع الهزائم، وتواتر الفاقة. مأمولة؛ كآخر التأسي بالأنين المكابر، لا ندب نوائح تترى كثمار النكسات، وكَرب المستوحشين. ما تركتِ في أيامنا ألا خيراً، جزيلاً، لا يشحّ ولا يتضاءل، جمّ الفيض، غزيرة ندرته، وفير العطاء، منقطع المثيل. ويالبهاء شاعرنا الأندلسي في قوله: لعمرِي لئن كنتُ امرأً فاتَهُ الغِنى.. فحسبِي غنىً أنِّي بجودك واثِقُ. فكم ذا فاتنا الغنى والغناء لولا وثوقنا بصوتكِ.. فما أغنى هذه الأمة بك.
ساعةَ سعى كلّ وعي إلى التلغيز والإبهام، سعيتِ ومن معكِ الى المألوف الحصيف، وخالفتِ الغامض العكر، وأدهشتِنا بالمبهمِ؛ نادر التأويل، المأنوس بيانه، والواضح الجلي، الخارق العجيب، فقلنا تلك فيروز، وهذا سهلها الممتنع.
أيتها النُدرة البليغة، تَهتّكَ الفن وبغى عليه جَحَدةُ الجمال، وبقيتِ في مأمن الناسك ويقينه، لم يدنسكِ تهافتهم بأدرانه، وزهدتِ حين تكالب الطامعون. أيتها النقية البهية، محبتكِ بعدد أنفاس من ينصفون الجمال الحق. صوتكِ السخي، أَندَى وأَجوَد من أسماعنا وإنصافنا، من مدننا؛ مادمتِ غنيتها مدينة مدينة، ولم تحفل بكِ إلى الآن، كما فعلت المدن البعيدة.
أيتها السيدة الأمّة، ما مررتُ بمدينة في رحلة النفي، وسمعتُ صوتكِ فيها، إلا وكان شجاكِ كمزامير ترددها ريح قصب قرية أهفو إليها.. يُحضِرها صوتكِ، والأسى يبعث الأسى، فكنتِ البهجة في حبور الباحث -عقلاً- عن المسرة، وغبطة الفرح الروحي، وبقيتِ ما بقيت هناءة أمل، ظلّ، يسرّه، إلينا، حثيثاً إشراقكِ المطمئن. كنتِ قصيّة عن ترفيه اللحظة العابرة، ولم ينأ بكِ حزنكِ الواعي شططا. لم تُقصكِ غربتكِ عن القلوب، كنتِ ثمينة، غريبة/غريبة، وديدن النفيس الثمين أن يبقى غريباً حيثما كان. ثمّنكِ الغرب فأكرمكِ بما تستحقين، وصارت غربتكِ شرقية.
الكلمات متهالكة، وبعيداً عن ما لا تُبلغه في عجزها الأبدي، بين يدي المحب الراغب، وقريباً مما ينحاز له الشعراء؛ كمعجزةٍ جهة الخلود.. صوتكِ دفع بالكثير من الشعر صوب هذا الظفر.
يوم تفجَّعنا العسرة ونوازل الحروب والأزمات، أخرجَنا صوتكِ من كمد الكارثة، وأبعدنا عن مأزق الضيق بشجن شفي شفيف، وجوى عاشق مضنى الوله.
أيتها السيدة الأمّة، نحن كثيرون بكِ، وإن تاه جلّ القول في غيبهِ، فأنت قصيدتنا الحاضرة.