يحدّد جوليان بيندا في كتابه (خيانة المثقفين) أنواع المثقفين بقوله إنهم أولئك الذين لا يسعون وراء المصالح والمكاسب، بل يجدون سعادتهم في ممارسة فن أو مزاولة علم أو البحث في نظريات ما وراء الطبيعة، ويلخص بيندا سعادتهم في الترفع عن ملذّات الحياة، مبينة أنه في أثناء مطالعته للتاريخ منذ أكثر من ألفي عام وحتى وقتنا هذا، وجدت مجموعة متواصلة من الفلاسفة ورجال الدين والأدباء والفنانين والعلماء كان تأثيرهم وحياتهم في تعارض مباشر مع الغالبية العظمى من العامة.
ويعترف بيندا أن واقعية البشر العاديين تدفعهم لارتكاب الشر باستمرار، ولكن طوال عمر البشرية لم يتحوّل الشر إلى خير برغم إصرار الإنسان على ارتكابه، وظل ضميره يؤنّبه كلّما ارتكب هذا الشر، كما أنه ظل محباً للخير حتى لو سلك ضدّه، لاسيّما بوجود الفئة المثقفة التي تقف حارسة على قيم الخير سواء بعدم مبالاتها بدوافع الشر ومكاسبه أو بالتصدي لمن يرتكب هذا الشر من دون البحث بذلك عن مكاسب دنيوية، وهذا التناقض هو الذي صنع الحضارة الإنسانية في نظر الكاتب، فعدم مس القيم من الناحية النظرية هو الذي يبقي على الحضارة الإنسانية حتى لو انتهكت فعلياً.
ولهذا، يحدّد بيندا دوافع السلوك البشري الدنيوي بدافعين: تحقيق المصلحة المادية، والحصول على التقدير.. ومن ثم يلخّص الشر في مصطلح المشاعر السياسية، وهي المشاعر التي يحس الإنسان بها أنه مختلف عن الآخرين، أي أنها معاكسة للمشاعر الإنسانية العالمية التي يدعو إليها، ويصنف المشاعر السياسية إلى قومية وطبقية وعرقية، هذه المشاعر أصبحت تتحكم بقطاع عريض من البشري الدنيوي: فهي تسعى إلى الحصول على المكاسب المادية، وإشباع رغبة التميّز والتعالي عند الإنسان.
ويذهب بيندا إلى أن المثقفين أصبحوا يؤيدون الدوافع المادية ضد الحياة الروحية، وانعكس ذلك على سلوكهم تجاه الحكام الجبابرة بتأييد عدوانيتهم وتسلطهم وجعل الأخلاق تابعة لمصالح سياساتهم بعدما كانت الأخلاق هي التي تحدد السياسة في زمن أفلاطون، وحتى مكيافيللي لم يغيّر الخلاق، بل فصل السياسة عنها وجعلها غير تابعة لها مع إقراره بكون الأخلاق السليمة هي الصواب، ولكن العصر الحديث غيّ{ مفهوم الأخلاق نفسها وجعلها تابعة للسياسة فاحتقرت العدالة ومجدّت العظمة وصار الوفاء من شيم الضعفاء والعدل من صفات العبيد. ولتحديد أسباب هذا التدهور الذي أصاب المثقفين ودورهم في كبح جماح النفعية والمادية بين الأمم، يضع بيندا اللوم على مركزية الدولة التي جعلت كل المواطنين تحت هيمنتها وسلطانها مهما كانت مكاناتهم الأدبية، فضلاً عن إيجادها الروابط القومية التي لم تعرف في السابق وجعلت من حب الوطن فضيلة يتعصب الإنسان لها، كما أن المصالح المهنية التي جعلت للمثقفين القدرة على البروز والانضمام للنخبة لو قاموا بالدور السياسي الداعم للطبقة الحاكمة التي تملك اضطهاد المثقف لو حاد عن الطريق «القويم». هذا التدهور الذي أصاب المثقفين وجعلهم يخونون طبيعتهم التي ساروا عليهم منذ آلاف السنين يفسر لنا معضلو مهمة عند الحديث عن التاريخ المقارن: إذ نلاحظ أن المثقف في الحضارات السابقة كثيراً ما يواجه الضغوط والعقوبات، ولكن هذه الظاهرة تكاد تختفي في عالم الحضارة الغربية التي يكتب المؤلف من واقعها، ولعله يفسر ذلك بسبب سير عموم المثقفين في ركاب السلطة، بل تحولهم إلى جزء من الطبقة المهيمنة بعدما تم تدجينهم للأسباب التي تم عرضها. قسّم بيندا كتابه إلى أربعة فصول، هي: الفصل الأول: تكور المشاعر السياسية في العصر الحديث، الثاني: أهمية هذه الحركة- طبيعة المشاعر السياسية، الثالث» «المثقفون»- الخيانة العظمى، وقسّمه إلى ثلاثة مباحث: تبني المثقفين للمشاعر السياسية، ووضع المثقفين أعمالهم في خدمة المشاعر السياسية، والمثقفون يمارسون لعبة المشاعر السياسية على حساب معتقداتهم، وجاء الفصل الرابع بعنوان: الملخص- التوقعات.
الكتاب الذي ألفه جوليان بيندا، جاء بترجمة محمد صابر، وتقديم محمد شعبان صوان، وصدر عن داري الروافد الثقافية في بيروت، وابن النديم في الجزائر، بواقع 276 صفحة من القطع الوسط.