اللعبة

ثقافة 2020/09/08
...

عبد الصاحب البطيحي
 
بعد ما يشبه يقظة الوعي إثر ركام من الألم، بعد العودة الى "بغداد" إثر هجرة الى "السعدية" في ديالى تفادياً من القصف العنيف المدمر الذي اشتركت به الطائرات والصواريخ بعيدة المدى، خرجت صباح يوم مفعم بالتوجس، وقفت في صف طويل لشراء الخبز.
كان الرجال يتسربلون بوشائج خشيةٍ حفرتها الأيام، وبمرارة التجربة، يتحدثون وعيونهم زائغة بجدية وبأصوات يشوبها القلق وعدم التصديق بانتهاء المحنة. يستعيدون ذاكرتهم وهي تنفث الروايات عن تجاربهم المريرة أثناء القصف الجوي أو أثناء النزوح أو أثناء العودة. أحياناً يتهامسون أو يجهرون في افتراض الوعي وعيونهم شاردة عن فاجعات الزمن. وقفت واجماً أصغي الى الحكايات الغريبة عن الدماء المراقة والأطراف المقطعة والبيوت المهدمة والشوارع المقفرة والكلاب السائبة وانكسار النفس وصمت الموت المطبق على المدينة الصابرة، والى ادعاءات البطولة. تحدثت مع نفسي فيما إذا كنت من بين اسماء ستذكرها الأيام المقبلة. فها أنا أقف هنا تغلفني وحدة موحشة، تغور في دواخلي وذهول انهكه الجزع أتذرع بطمأنينة آتية مستوحاة من دفقة الصبر على المكاره، على الرغم من الجمع الذي يحيط بي ونسغ الشعور بالعودة الى مربضي.
بينما أنا غارق في التأمل انطلق صوت حسبته مدوياً إذ لم تزل لعبة القصف المدمرة يغور صوتها في أذني، أُصِيبَ الجمعٌ بالذهول وبالصمت. 
كان الصوت قريباً جداً زاعقاً، كان خلفي تماماً. استدرت بعنف لا إرادي، رأيت صغيراً يرفع يده اليمنى مبتسماً وكفه تحتضن مسدساً مزيفاً،
صرخت بوجهه:
ـ ماذا تفعل ونحن نشهد عام 2003
أجاب ضاحكاً:
- ألعب
صرخت ساخراً:
- وماذا تفعل عندما تكبر؟
قال واثقاً بابتسامةٍ تتسعُ: 
أسرق سلاحاً حقيقياً وأقتل.
(سلمان، في عودةٍ الى تيهه، يلملم نفسه، يتنفس نتن الهواء يتلفت، نظراته تعيدها جدران وهم ساخرة، تضيق به، يظل دهره باحثاً عن أسنانه التي تبعثرت في منعرجات فضاءات مضطربة. يستنكر خيبته، يسبر أثقاله في سره، ثم يستجوب نفسه:
أحقاُ ما يحدث؟
يزم شفتيه حانقاً، 
ويسترجعُ ترنيمةَ ذاكرةٍ للعبةٍ لا تنتهي).