المكان في ذاكرة الرائي

ثقافة 2020/09/08
...

 خضر الزيدي
عاملان اساسيان يستحوذان على رواية «شباك ام علي» التي انجزها لنا الكاتب محمد العامري عامل المكان القرية (القليعات) التي حملت صاحبنا العامري طفلا وفتى وربما شيخا يعيد بذاكرته ادق تفاصيل ذلك المكان السحري المليء بأجواء ريفية هادئة كأية قرية من قرانا، والعامل الثاني طبيعة اللغة وطاقتها الوصفية، وهذا الامر يعود لامكانيته في كتابة الشعر، بعد أن خبر طاقته الوصفية والتعبيرية، اما في ما يخص شخوص الرواية فيلجأ الراوي الى تعزيز بيان اسماء نسوية يراها تشكل كيانا مهما في احداث مجرى النص، وهذا ما سيكتشفه القارئ، ولكن المهم ثمة غاية انسانية يسعى اليها خطاب الرواية يكمن في تجليات (يسرى) الام الحامل بجنين اسمه يوسف فهي تخاطبه وتتحس حركاته داخل بطنها وتصغي الى نبض قلبه، وتخاطبه بوعي وحس بالانتماء لهوية المكان وهو اشارة يبينها محمد العامري كانتماء لارضه وتعزيز هويته العربية (الفلسطينية والاردينة معا) ولعل مثل كهذا اصغاء باطني ومحادثة بين ام وجنينها من شأنه ان يستحوذ على طاقة ووجدان المتلقي، وفقا لمرجعية أسس نفسية واجتماعية، وبالوقت ذاته سياسية تعيد قراءة المكان جغرافيا وما «شباك ام علي» ورمزيته في الرواية، الا ذلك الفضاء الواسع الذي تريده البطلة لابنتها ونساء قريتها القريبة من فلسطين المكان الروحي والجغرافي، حينما تسرد لابنتها العديد من الحكايات عن اجواء من حياتها مع زوجها الشهيد. الحنين في كتابة هذا النص وحوادثه يثير فينا اسئلة الوجدان للفرد الفلسطيني المهجر من ارضه صوب المنافي ويوضح لنا مدى اهتمامه وتمسكه بارضه وطفولته، وهذا التوجه بالانتماء لبدايات الهجرة والاحتلال، غالبا ما اعاد صياغته اغلب الروائيين الفلسطينيين والاردنيين، والمعروف بان الحنين والعودة للجذور يشكلان هاجسين مغريين لذاكرة من عاش طفولته في قرى ومدن فلسطين قبل الهجرة، ولكن الملفت في هنا يكمن في «ام علي» وذكرياتها،استرجاع الذاكرة للخلف ليس الا توثيقا لمنزلتين، الاولى جغرافيا باتجاه المكان الاول والثانية وجدانيا في التوق للطفولة وحياة العشرة الزوجية، خيال الرواية ليس سباقا مع الجغرافيا الدارجة، لأمكنة صاخبة، أنه توجه يوسع من موجهات الفرد، ليطرح تساؤلا صادقا، لماذا نتحمل نحن الفلسطينيين انكسارا وغربة دون الاخرين، الصوت الانساني ينخرط في مجاز لغته، فالرواية التي بين ايدينا هي حقيقة لنقل فعل الصراع النفسي والوجودي واصعب ما في متنها قيمتها بالشعور بالذات الانسانية المستلبة.
 
المكان مفهوما ذهنيا
يعتمد نص الرواية على استرجاع بعض ثيمات الذاكرة لام مرهقة عجوز وهو ابتكار يتبناه الروائي لطرح قضيته بالشكل الانساني على العكس من آخرين اربطوه بصورته السياسية وربما مثل هذا الاعتقاد جاء ليوسع صاحب الرواية من التفريق بين البعد السياسي لجيل عانى الهجرة وتصور البعد الانساني فيها، وفي هذا الخضم ثمة خيال يعيد لنا رابط الهدف من الكتابة وتحطيم قوالب الورقة النمطية لقصة هجرة الفلسطينيين ومعاناتهم، ومن العدل ان نعثر هنا على تراث انساني لا نهاية له سواء جاء عبر مغامرة الحرب مع الهيود واستشهاد ابراهيم ابو سلوى او اشتياق الأم لارضها.  الدلالة هنا ليس في اطار استرجاع ذاكرة لمكان وحنين لوجود فقط انه ترسيخ لهوية شعب وهذا ما يريد قوله محمد العامري،المكان (قرية او مدينة او ازقة قديمة) لم تحمل سماتها بعرض المشاهدة البصرية لها.. فهم اليات المكان واجوائه وسحره يرتبط بالذاكرة غير الملوثة ووتيرة هذا الاهتمام بالمكان في الرواية ،يبرر مسار نزعة محمد العامري وجوديا فما الذي يهدف اليه ؟عندما نتكلم عن الامكنة في الروايات العربية، فاننا نشير لهيمنتها اولا وعلاقتنا معها ثانيا، في مثل كتابة الفلسطينيين يختلف الامر بدرجة من العاطفة الحادة، اذ ثمة حلم يرافقهم لم ينقطع عن حبل سرة ذاكرتهم، فهم يشيرون لمكان غير منغلق ولا يعرجون على تفاصيل غير مفعمة بالتراث المكاني، ومن يطلع على نص «شباك ام علي» سيجد سردا بسيطا غير مبهم ولا غامض له وحدة موضوعية مشاهده مترابطة وعباراته من النثر الحكائي ان صح التعبير. 
 
الشخص الحاضر في سرد الأوجاع
كل فرد من شخوص هذه الرواية يحمل هما انسانيا، بداية من الأم التي تحدث جنينها الى الأم العجوز الطاعنة في السن، وهذا الترابط بين الطفل في احشاء امه هو اتضاح لمستقبل محسوس باطنيا ومجهول واقعيا، بينما سرد العجوز(ام علي ) هو وجع الشخوص وذاكرتهم، تدل هذا المفارقة على تكوين نمط بنائي بين ثنائية تتحد وفق مركز متن الرواية وفضائها الدلالي، فتجسيد التساوي بين الطفل والمرأة الكبيرة بمجمله يحمل كشف مصادرة وجوده، ما يقدمه نص هذه الكتابة لم يختلف عن مشاهد درامية، بقيت في ذاكرة المتلقي العربي، الا أن المختلف هنا ان شخوصها لم يتجردوا من انسانيتهم فهم فقراء حد التوحد واغنياء بحب الارض والتمسك بها حد الوجد الذي يعيشه الصوفي لهذا من يعيد قراءة الرواية يكتشف انها تطرح تساؤل الوجود للفرد الفلسطيني وتبين لنا احلامه وكيف يتكامل معها.