نادرة هي النصوص التي تبقى كلماتها تفوح برائحة الشوق الى رحمها الأول، سواء أكان هذا الرحم مكانا ام فكرة ام حلما، لذلك كثيرا ما تأخذنا بعذوبتها نصوص أولئك الشعراء الذين ظلوا مشدودين بخيط الحنين الى القرية، بوصفها المكان – الحلم الذي لم تلوثه البربرية بدخانها المدني.
من هنا ما زالت تسحرنا - نحن القراء – نصوص رسول حمزاتوف، التي تفوح برائحة الحنين الى داغستان او رسائل الشاعر الروسي يسينين الى أمه او نصوص الشاعر العراقي عيسى حسن الياسري الى قرية ( المحسنة ) وغيرهم، اذ تظل نصوص هؤلاء الشعراء مطوية على خيط من اللوعة والحنين وحسرة الافتقاد، لذلك العالم الأمثل الذي انسلخنا عنه ولن نجد له بديلاً.
وليس بعيدا عن هذا النسق تأتي نصوص الشاعر العراقي هيثم كامل الزبيدي في مجموعته الشعرية – شبّار الشوك – الصادرة عن دار نشر بوتيكا أوفرسيز سنة 2018. وسنحاول في هذه القراءة الوقوف على أهم الشواهد التي ترسم هذا النزوع الانساني وتمثليه في
المجموعة.
لقد أخلص الشاعر الى ذاته المسكونة بحزنه وبشوقه الى فردوسه المفقود، إذ وسم مجموعته بـ : "شبّار الشوك" – هذا العنوان الذي تشكّل في مخيلة الشاعر وذاكرته من خلال سير حركة حشرة اليسروع على الشوك، مما يعني أن القرية لا تزال ماثلة بكل ما تمثله من نقاء وصفاء وبساطة وأصالة في روح الشاعر، فالقارئ من البدء يعرف أنه في رحلة مع الشاعر صوب الينابيع الاولى مدفوعا بلذة استكشاف
المجهول.
روح القرية
يستحضر الشاعر روح القرية في مدخل المجموعة محفوفة بوجعه وخيبته، التي يرسمها قدر مجهول ( ومن بينهم من اراد بلادا/ من الخيزران/ من السيسبان/ من العنفوان/ كأرض السواد/ ومنهم .. ومنهم/ لكنني لذت بالصمت اذ سألوني " ماذا تريد ؟"/ ولم ابلغ الغيم اني سئمت الوعود/ سئمت اكاذيبها في المساء/ تبعثر فوق الحقول الرعود/ سئمت التسكع خلف الحدود) ص11.تبقى مشعة بملامحها تلك القرى شكلت ملامح الشاعر وعلى نقاوتها النادرة تفتحت أزهار قبله . ففي نص ( قل العفو ) يستثمر الشاعر مفردات الريف العراقي ليتوج بها نصوصا غاية في العذوبة ( خذ النهر وأمض/ خذ حفنة عذبة مثل " ماء العروس ") والشاعر هنا يرسم صورة الوجع العراقي حيثما وجد لوحة جديرة به ( وخذ دبكة في ليالي الحصاد/ وخذ خيبة الحاصدين اليتامى/ لأن الجراد/ أباح السنابل/ نمت خيبة في انحناء المناجل )
ص15.
لم يكن هيثم الزبيدي سفيرا لأوجاع المزارعين وعويل الجياع وارامل الحروب في القرى القصية فحسب، بل تراه بحسن ايقاعه الشعري وبمهارته العالية ايضا يشكل كل ما تقع عليه عينه في فضاء البساتين والقرى الغافية على سعفها ليرسم لنا أملا في الجهات
البعيدة.
وهذا ما يفصح عنه نصه ( قال المعلم) اذ يقول: (هكذا قال المعلم/ يا بني.../ خذ كل هذا الوجد/ والتسبيح والكلمات/ وانثرها نذورا بين اقدام الصبايا/ عندها تنسى الحياة حياتها/ وتفر من كل الزوايا/ سترى اخضرار الصبح في وجه المرايا)
ص23.
موت أبيه
إنَ من أكثر النصوص التي اتوقف عندها كثيرا في - شبّار الشوك - نص ( أبي) فان كان في المدينة التي لوثها الشيطان من يردد مع نفسه في الليل " من منا لا يتمنى موت أبيه؟ " هذا القول الذي اطلقه فيودور ديستوفسكي في الاخوة كارامازوف ، نجد بالجانب المقابل لهذا المشهد قصيدة – أبي – التي تتجسد فيها اروع المشاعر الانسانية السليمة التي قامت عليها اخلاق القرى الكبيرة ( أبي حين يمشي/ تسير التلال/ وفي ظله تستريح الظلال/ وتغفو على راحتيه العنادل ) ويستمر صوت الشاعر متدفقا كينبوع بلا تكلف في كل مقطع ( أبي حين يبكي/ يفز حمام/ يضج نخيل/ وتنساب من مقلتيه سنابل) يتجلى نوع من القداسة التي تربط صوت الشاعر بصورة الأب وما هي الا قداسة الفطرة الاولى، فطرتنا التي ولدنا عليها ( وكم يستطيع/ بتسبيحة منه/ جر المواسم نحو الحصاد/ فقط لو يحاول )
ص28 . ناهيك عن حسن البناء الفني للنص وانسياب صوت الشاعر وهو يطوع موسيقى النص لما
يشاء.
ربما لا يتسع المجال هنا للخوض في كل الاشتغالات التي تنطوي عليها المجموعة وما تفصح عنه من قلق الوجود وغربة الشاعر ( قل لمن زغردن يوما في صبيحة مقدمي/ للآن يوجعني دمي ) ولا يتسع المجال ايضا للمرور بمشهد الحرب التي اتقن الشاعر هضمها بصور شعرية جديرة بالوقوف ( واذ جاءت الحرب مسرعة مثل غيم الهبوب/ بلا موعد سابق او اذان/ توزع اوراق ايلول موت على العابرين )
ص69 .
أسرار السعف
تنفتح مجموعة - شبّار الشوك – على الحياة وتشتبك في كل تفاصيلها الدقيقة لقد كان شاعرها في قلب المعارك وحقول الحنطة وساحات العمال وقاعة الدرس وكان خفيفا كالنسيم بين عاشقين عارفا بأسرار السعف ومترجما لهديل الفواخت وبريد العصافير على أغصان البلاغة والنشيد وهذه هي سمات الشعر العابر للحدود والراسخ في الذاكرة.
لم يكن الأمل عند هيثم كامل الزبيدي غير نافذة تفضي الى القمح وروعة البيادر وصفاء السماء وعذوبة الظل تحت نخيل الانتظار في البساتين التي تفوح بعبق التين على ضفاف الوجود، وما ذلك إلا لأن الشاعر ابن الطين والأغصان المستقيمة وهو ابن الذين لا يأكلون الخبز إلا من عرق جبينهم وكأنهم قد درسوا الهندي غاندي حين قال: (مرٌّ هو خبز
الاخرين).
في النهاية تتوفر المجموعة على الكثير من الصورة الشعرية اللذيذة، التي يندر وجودها في قاموسنا الشعري اليوم، فشاعرها قد وظف تحولات حياته في القرى العظيمة وبالنتيجة قدم لنا مشهدا شعريا مغايرا ( ها قد أنهكني " المسراح " متى " المرواح "؟/ الزم أرضك ما بال لهاثك يا ولدي ؟/ والوقت صباح ؟/ وأبي علمني أن أدعو اليسروع الأصفر "شبارا للشوك"/ علمني اليسروع الزحف على اشواك العمر)
54.
إنَّ الشاعر هيثم كامل الزبيدي قد صور لنا لوحة خضراء في زمن قاحل وهذا ما يذكرنا بقول لجان بول سارتر في معرض حديثه عن بودلير: (حاول بودلير ان يصور ملامحه بمآسيه العائلية وديونه الكثيرة ومعاناته الغرامية.. فاذا به يرسم لنا صورة الوضع البشري كله).