مسافــة الحـيـز ودلالـتــه

ثقافة 2020/09/09
...

  ياسين النصيِّر
 
من الواضح أننا نجهل دور المسافة في تحديد اللغة والكثير منّا يتعامل مع الأحياز بلغة واحدة، تتبعت هنا، في هولندا، أحاديث الصوماليين وبعض الأفارقة المهاجرين، فوجدتهم يتكلمون بصوت عالٍ في شوارع المدينة الغربية وحافلات النقل والأسواق، من دون احتساب للمسافات المحددة التي تفصلهم كأشخاص في المدينة الغربية، معتبرين أن كل المسافات في الأمكنة العامة هي مسافاتهم، حتى وهم يتحدّثون في الموبايل. 
جذر المشكلة- كما عندنا نحن العرب- إنّ فضاءات بيوتنا في الأغلب تكون أحيازها غير محددة المسافات، وإنْ كانت مسيّجة، فبنية البيت الشرقي بنية غير إحيازية، بمعنى أنها تلغي المسافات الشخصية الخاصة، إلا في تصميماتها العامة، كما أننا لا نميز بين أمكنة الأحاديث الخاصة والأحاديث العامة، فترانا ننقل مشكلاتنا البيتية إلى الشارع ونتكلم عنها كما لو كنا نتكلم في بيوتنا، هذه ليست حرية، بل هي ثقافة لتعميم البناء الفكري على خصوصية الأمكنة، متناسين أن الشيء المباح يمكن أن يؤطر في مجتمعات لا تقبله كجزء من ثقافتها. 
 
حيز السكن
 بإمكان أي شخص أنْ يوطن ثقافته في أي حيِّز يسكنه، يتحدث ادورد هال عن العمال الأميركيين الذين تستقدمهم الشركات العاملة في البلدان الآسيوية؛ من أنهم يخافون من السكن في البيت الشرقي، لسعته، وعدم تحديد مهمات أحيازه ووظائفها، عدا الحمام والتواليت والمطبخ. 
فثقافة هذه الأمكنة تكاد تكون واحدة لارتباطها بوظائف الجسد، فخشيتهم من المسافات الواسعة في داخل البيت، وسعة الغرف، وعلو السقف، وسعة الحديقة، تمثل مخاوف جديّة لهم. هذه الحال ستكون أقل فهما في الأمكنة الغربية المدروسة
 المسافة. 
فالمسافة تولّد اللغة، ليس من الهين على الشخصية الروائية أن تتكلم ولا يسمعها أحد، ولكن ليس من المستحسن أن تتكلّم مع الآخر بصوت عالٍ وهي بالقرب منه، ثمة حيِّز شخصي بعيد أو قريب، عليه أنْ يستوعب سايكولوجيًا واجتماعيًا دور مسافة الآخر في الكلام، بحيث تتحوّل المسافة إلى قوة تمنح كلّ خِطاب هويّته. ونجد أنفسنا من دون إرادة منا نقصد طاولة بجوار الجدار عندما ندخل مطعمًا، وعندما لا نجدها، نلجأ للبحث عن أخرى، ما يضبط ايقاع الحديث هو وجود حواجز، فالفضاء الواسع يتيح للكلام أن يكون مشاعًا.
أحلام اليقظة
فالمروي الشعري يتمتّع بحسّ المسافة المشغولة أكثر من المسرود الروائي الذي تهيمن عليه أحلام يقظة المسافات الحرة، لأن الروائي يتكلّم ليكتب، أما الشاعر فيتكلّم ليحلم. هذا يعني أنّ عيني الروائيّ تسير مع القدمين محتسبةً المسافة ومحتوياتها كمشاهد، بينما عينا الشاعر تطوي المسافات بأحلام الكلمة التي تختزل التفاصيل. بكلمة واحدة يقول الشاعر لحبيبته: إنني أحلم بشاطئ أنتِ فيه، ما يعني أنَّ حلمه في مسافة فضاء محدود، وعلى المتلقي أن يتخيل الشاطئ والحلم معًا من خلال الصور، حيث يجثو الشاعر على قدمي الحبيبة، ولا يغادر خطواتها حتى يبلغها حبَّه المسافة عند الشاعر تُدرك. في حين أنّ حلم الروائي (بالشاطئ الذي أنتِ فيه) يتحوّل إلى قراءة مكانية لمسافاته
 اللامتناهية. 
ويبحث الروائي عن آثار خطواتها في رمال الشواطئ المفترضة، فبناء أية فكرة لا يتمّ دون الاهتمام بالمسارات الفردية للشخصيات، يعني ابتداءً بالتفكير العمليّ، وانتهاء بكتابة الصورة الشعرية. فالرواية ليست قضية معزولة عن فكرة التشييد الواقعي لمسافات الأمكنة المختلفة، لأن الإحساس بالمسافة هو شعورنا بأننا موجودون ضمن حيِّز محدّد حتّى يمكننا تبليغ رسالة، أي احتساب المسافة والكلفة وطبيعة الرسالة ضمن المكان، المسافة تنظم العمل، وتكون على درجة عالية من الدّقة في احتساب اللغة. 
فالمسافة محددة باتجاهات (التقاطب المكاني )، كما يرى يوري لوتمان من قبيل: الداخل/ الخارج، الفوق/ التحت، الأمام/ الخلف، القريب/ البعيد، هنا/ هناك، " والتي ترتقي بالعلاقات المكانية المعتادة إلى مستوى النموذج المكانيّ القابل للتحليل وفقًا لطبيعة تنظيم وأشغال المادة المكانية في الخِطاب الروائي"، ولتقريب الفكرة، فإنّ ما نراه متجسّدا على خشبة المسرح، هو دقة اشتغال الممثلين اللاعبين في الأحياز التي تخصهم وفقًا لخطط
 المخرج.