هذا عنوان يوحي بقصة بوليسية، لكن ما في القصة البوليسية، لا علاقة له بما نتحدث عنه، حديثنا عن قوى و "طاقات" مفاجئة توجه أفعالا مؤثرة acticns، القوة الغامضة التي نتحدث عنها، تدخر مثل هذه الطاقات، وهي قد ورثتها. أعني بهذا قوة التاريخ الغامضة، هذه القوة كثيراً ما فاجأت الدول الغازية بما
لا تتوقعه من مقاومة مضادة مرئية ولا مرئية!
لنتقدم أكثر في الإيضاح، للناس مثل يؤمنون بها وقيم يؤمنون بسلامتها وبأهميتها لهم، لسلامهم ووجودهم. إيمانهم هذا، سواء كانوا على صواب أو غير صواب، يصبح حقائق يكون الناس حيالها مستعدين للتضحية من أجلها. وهذا هو الذي يفسر كمّ التضحيات التي تقدمها الشعوب ضد الغزاة الغرباء الذين يريدون محق مثلهم وما يدينون به. القوة المتفجرة أو الفاعلة هذه يسمونها القوة الغامضة
للتاريخ.
هذه القوة تكون مجيدة حين الدفاع عن الأمة لكنها، في حال آخرى تكون قوة مضادة، كارهة للظواهر الجديدة القادمة. هي لا تراها جديدة، تراها غريبة وللأسف تشمل هذه الظواهر المدانة مفردات التقدم وما وراء هذا التقدم من ثقافة، مثل هذه المواجهة، تخطأ إذا صرت خصماً أو عدواً مباشراً. الصواب أن تكون متفهماً لقوة كامنة نافعة، استفزتها الظاهرة الطارئة – هل لديك وسائل إقناع حية تريهم فائدة الجديد، أخوته، عونه ويفيد بتغذية و "تجميل" المضمر النافع الذي يبدو قديماً؟ هؤلاء ناس لهم قناعتهم ولهم مبادئ شاملة وقد ورثوا أمانة ليحافظوا عليها. وهي ليست ضارة وليست خطأ ولكن تحتاج إلى إعادة فهم وإلى تغيير اتجاه
فعلها.
ارتكبت القوى الاستعمارية أخطاء شنيعة بحق شعوب تدافع بضراوة عما ورثته من أرض ومبادئ آمنت بها واعتزت بها وهي مؤتمنة عليها. كانت الاحتجاجات واسعة في أميركا نفسها ضد توحش قواهم العسكرية بقنابلهم ونيرانهم ضد الفيتناميين، حتى أسهم في الاحتجاج مفكرون، كتاب، أساتذة جامعات وناس من عموم الشعب الأميركي ما زالوا يحتفظون بنبلهم الإنساني إن كانوا بسطاء وبادراكهم إن كانوا مثقفين. ليس من صالح أحد اتلاف القوى الغامضة فهي حامية الكنوز الإنسانية.
حصلت قبل هذا احتجاجات واسعة في فرنسا، أسهم فيها بقوة كتاب ورجال قانون ومفكرون وفنانون وطلبة. كلهم أدانوا التوحش العنيف ضد ناس يدافعون عن أرضهم وقيمهم. في الجزائر وفي فيتنام هذا الفعل العدواني بشناعاته، أثار موجات من الرفض، رُفِض عقلياً وسياسياً. وراء هذا الدفاع العظيم والاحتجاجات العظيمة إقرار بحق حماية الشعوب لما تملك، على سعة ما تملك مما نرى ومما لا نراه. وضمن هذه قيمهم ومبادئهم الشاملة، وقد أدرك الغزاة أنفسهم وأدركت شعوبهم ان من يخترق حقوق الشعوب تلك، يخسر الحق في الاحترام الإنساني، لا لأنه قتل وأسر ناساً، ولكن لأنه قام بتدمير حياة بما تمتلك من قيم أيضاً. إنهم أهالوا القنابل والنيران على مدى تاريخ هذه البلاد. أندهش القادة الأميركان من بعد كما أندهش ضباطهم ومقاتلوهم لتلك الاستماتات والمقاومات العجيبة للفيتناميين، لا عجب، هي طاقتهم الكامنة، هي القوة الغامضة لتاريخهم كله تفعل هذا الفعل!
مسألة: تهديد الإنسان أن لا جدوى من عناده أو مقاومته أمام قوى حديثه متطورة، هذه طائراتهم القاذفة ونيرانهم..، ثبت أنه تهديد غير مجد. فهؤلاء ناس لهم تاريخ طويل ويمتلكون خزين طاقات لا تنفد وقوتهم الغامضة تمتد لآلاف السنين ويمكن أن يمتد حضورها العظيم لا نهائي الفعل إلى مدى بعيد قادم.
لكنني هنا أحاول أجد حلاً أو شبه حل، أو في الأقل، تأملاً إيجابياً، تأملاً أخلاقياً قبل كل شيء، يحترم هذا الإنسان الممتَحَن ما بين مثل ومبادئ شاملة ورثها، وهذه تؤكد وجوده وتميزه، وبين جديد قد يكون له امتيازه وفائدته، هو يشك به ولا يأتمنه. لا حل غير أن نكون نحن أيضاً والقادمون اليه، مؤتمنون على ممتلكاته المادية – أرضاً وطناً والمعنوية تراثاً وقيماً. للأسف، حتى الآن، لم يحصل أي من هذا في الواقع العملي التطبيقي. فالقوة الغازية، عسكراً وثقافة ورأس مال كلها نسعى لمسح وتغيير ما أمامها ولتمتلك القضاء الجديد كله لبناء وترسيخ مصالحها أو أسواقها وفلسفتها، أظننا في موقف وجودي أخطر ما فيه إلغاء الاختيار وتأكيد حتمية
النتيجة.
السؤال الآن ما هي مشروعية التغيير الثقافي أو الفكري أو الإيماني؟ حتى اليوم لم تُحدَّد أفضليات الأفكار ولا أفضليات الأخلاق، والسلوك في تحولات دائمة لا احد يقول بنهاية لها. ولم تستطع العلوم والتقنيات أن تحدد للناس بنية مادية ووظائفية وعصبية وأنماط تفكير، فهل نعود للقانون الطبيعي ليكون حكَماً؟ لا أجيب عن هذا السؤال. أنا مرغماً أحتمل الاستمرار على ما نحن عليه حتى نجد حلاّ ولا ارى سلامة وصواب القانون الطبيعي بعد امتلاء فضاءاتنا بالمكائن والآلات.