{الطاعون القرمزي} ونبوءة جاك لندن

ثقافة 2020/09/12
...

عبدالزهرة زكي
 
لم يؤشر النقاد أية صلة لرواية جاك لندن (الطاعون القرمزي) بالعمل الرائد لجيوفاني بوكاشيو (الديكاميرون)، كلا الكتابين السرديين نتاج فكرة الحياة ووباء الطاعون. أنجز بوكاشيو عمله في القرن الرابع عشر، عام 1353، بعد تفشي الطاعون في مدينته فلورنسا، فيما ظهرت رواية جاك لندن عام 1912، بعد خمسة قرون على صدور الديكاميرون. كلا الكتابين أسهما في التأسيس لنوع أدبي يعنى بالأوبئة وجوائحها، وهو نوع قريب من الدستوبيا إنما باهتمام
آخر.
سوى الطاعون، هنالك ما هو مشترك بين هذين العملين الأدبيين، وهو عمل ثالث لمؤلف ثالث، عمل هو الآخر سردي، ويقع زمنياً ما بين عملي بوكاشيو وجاك لندن، ذلك هو عمل أدبي قصير كان قد كتبه إدغار الن بو ونال اهتماما لافتاً، إنه (قناع الموت الأحمر) الذي يحيل، بصيغةٍ ما، إلى (الديكاميرون) من جانب، بينما هنالك خيط رفيع يربط ما بين (الطاعون القرمزي) وقصة ألن بو (قناع الموت الأحمر) التي كتبها ونشرها عام
1842. 
هذه الإحالات والصلات ما بين ثلاثة نصوص سردية مكتوبة بقرون مختلفة تظل أمراً طبيعياً ومتوقَّعاً في تفاعلات نصوص الأدب، ولا صلة له بالسرقة الأدبية ولا بالتناص، إنه مما يمكن تسميته بجينات النوع الأدبي المتوارثة عبر النصوص. في الأدب لا يولد نصٌّ من العدم، هنالك جينيات متوارثة في النصوص عبر التاريخ، العمل الإبداعي لكبار الكتاب يتركز، بجانب أساس منه، من أجل استحداث (الطفرات الجينية)، وما ينتج عن هذه الطفرات من تغيّرات نوعية في الطبيعة الداخلية للأدب وتقدّم
أنواعِه.
 
رواية استثنائية
رواية جاك لندن (الطاعون القرمزي)، وقد كتبت في سنوات لم يعش خلالها المجتمع البشري جائحة كبيرة للأوبئة مما عاشته البشرية من جوائح ما قبل وما بعد سنوات كتابة هذه الرواية الاستثنائية. أتوقع أن كتابتها في سنوات (ركود) الأوبئة هو ما ساعد المؤلف في اختيار موضوعها.
موضوع الرواية المؤلفة عام 1912 يتجه نحو المستقبل، إلى ما بعد قرن، بالضبط نحو عام 2013، حيث يجتاح الكوكب مرض الطاعون، ويبيد المجتمع الإنساني، لم ينج جراء ذلك سوى أفراد هنا وهناك يظلون يتحرون عن بعضهم بعد زوال الوباء وأفول الحضارة والبشرية وخراب المدن ودمار كل
شيء.
الراوي في هذا العمل الإبداعي هو البروفيسور جيمس سميث الأستاذ في جامعة أميركية أثناء الوباء عام 2013، لكن زمن الرواية يتقدم أكثر، تدور الأحداث بعد ستين عاماً على الدمار، في عام 2073، إذ يشيخ البروفيسور، ويلتئم على عدد من الصبية، من أحفاده، ممن ولدوا بعد زمن الوباء ودماره، وإذ تسيطر على الشيخ الراوي مشاعر التحسب من الموت وزوال أية معرفة بما كانت عليه البشرية من حضارة ومعرفة، فإنه يبدأ بالتحدث عن ذلك للصبيان حواليه من بعدما سعى إلى الحفاظ على عدد من الكتب المهمة كإجراء منه لحفظ التاريخ والحضارة والثقافة. حوار البروفيسور الشيخ مع الأحفاد الصبيان هو حوار بين حضارة آفلة، يمثلها البروفيسور، وبين مجتمع بدائي تماماً يشكل نواته الصبيان الذين لا يعرفون أي شيء سوى ما كان يتعلمه الإنسان البدائي عن الصيد وتوفير لقمة العيش في حياة برية بدائية.
كان هذا حواراً أقرب إلى المستحيل. قراءة العمل الروائي نفسه لا يمكن تعويضها بوصف سريع كالذي أتفاداه الآن في هذا 
المقال.
 
نبوءة أدبية
بعد اجتياح فيروس كورونا الكوكب عام 2019 حظي كتاب جاك لندن باهتمام استثنائي من لدن القراء والصحافة الثقافية في الغرب. وكان للتزامن النسبي لحدوث وباء كوفيد 19 مع ما جاء في الرواية التي تحدثت عن وباء ودمار في عام 2013 أثره في التأكيد على الجانب التنبؤي فيها. الرواية لا تكتفي بتقارب التوقيت، ما بين النص الأدبي وواقع الحياة الآن، لإقامة براهينها التنبؤية وإنما تأتي بتفاصيل، من حياة وزمن أحداثها، تؤكد تلك البراهين، كما في حال حديث البطل الراوي عن اتصالات لاسلكية وعن وصول شخصية من رجال الأعمال لرئاسة الولايات المتحدة وعن حركة طيران مدني وتفاصيل أخرى، بهذا جرى تداول وقراءة الرواية على أنها نبوءة أدبية بحدوث وباء كورونا وقد جرت قبل قرن بالتمام.
في هذه الرواية يجري لجوء مجموعة من الساعين إلى النجاة إلى الاختباء في قسم الكيمياء بتلك الجامعة التي كان يدرّس فيها الراوي، وكان البروفيسور بينهم، كان هؤلاء يريدون الحفاظ على مكان نقي من الفيروس (كما هو حال الفتيان والفتيات العشر اللائذين في قصر الديكاميرون)، بقصد حفظ أنفسهم من الاتصال بالآخرين حتى زوال الوباء، لم تنجح جهود جماعة (الطاعون القرمزي) من أجل النجاة، بخلاف ما استمر عليه الحال الآمن في قصر الديكاميرون في كتاب بوكاشيو. فإن قاعة قسم الكيمياء، برواية جاك لندن، تفشل في تحقيق حلم الجماعة اللائذين بها، إنهم يموتون بالوباء ولا ينجو من هذا المصير سوى البروفيسور الذي يظل يحمل على كاهله محاولة حفظ تاريخ ثقافي وحضاري لبشرية أبيدت..
 
قناع الموت
فكرة مكان الاختباء من الوباء تظهر أيضاً في نص إدغار ألن بو (قناع الموت الأحمر)، أحداث هذا العمل السردي الذي كتبه بو عام 1842 تدور في دير محصن يلتجئ له الأمير بروسبيرو، بطل حكاية بو، مع عدد كبير من النبلاء. وذلك للوقاية من وباء معدٍ وخطير لا يلبث المصاب به أكثر من نصف ساعة حتى يموت، ومهلة نصف الساعة تتكرر أيضاً، بالنسبة للضحايا، في رواية جاك
لندن.
لقد كُتبت الديكاميرون في أثناء ظرف وباء قاتل، بينما كتبت حكاية إدغار ألن بو تنشغل بعد تجاوز مرحلة وباء هو الآخر قاتل، لكن رواية جاك لندن وضعت بظرف هو أكثر استرخاءً، وقد سبق بأعوام قليلة مرحلة جائحة إنفلونزا 1918 أو ما عرف بالإنفلونزا الإسبانية التي أودت بحياة خمسين مليون إنسان، وربما كان هذا الاسترخاء هو ما حفّز الكاتب الأميركي، يساري النزوع، للتأمل في المستقبل، وكان تأملاً 
سوداوياً. 
قيمة هذا العمل القصير هي في رؤيته المستقبلية، أتوقع أن هذه الرواية كان يمكن لها أن تكون أوسع من حدود الاقتضاب الذي جاءت عليه، وكان يمكن أن تساعدها على ذلك طبيعتها التي تستفيد من خبرات وظروف أوبئة سابقة ومن الخيال ما دام النص منشغلاً بالمستقبل، لكن هذه الرواية كانت بداية المؤلف بالانتقال من الأعمال القصيرة إلى أعماله الكبيرة.
 
خيال علمي
ينبغي القول إن (الطاعون القرمزي) ليست الأولى في هذا المجال التنبؤي الذي يربط ما بين جائحة وباءٍ وإبادة الجنس البشري. في الأقل تمكن الإشارة لرواية خيال علمي كتبتها ماري شيلي بعنوان (الرجل الأخير) في عام 1826، ويقول واحد من التعريفات بهذه الرواية، التي لم أطلع عليها حتى الآن، إنها، هي الأخرى، تتحدث عن نهاية للحياة البشرية، وتحصل هذه النهاية في نهايات هذا القرن الحادي والعشرين، إنها فكرة ورؤية مبكرة، في كل حال، عن قرن استهل بوباء سارس عام 2002 ثم وباء ميرس عام 2012، وإيبولا في عام 2014، ونأمل بنهاية سريعة لوباء (كوفيد 19).
لقد تنبأ جاك لندن بالوباء، وقد تكون المصادفات التاريخية ساعدته في تحقق جانب من نبوءته، لكن من الممكن القول إنه بالغ في سوداوية توقعاته، أو هذا 
ما نأمله.