نشرت الصباح (الثقافي) في 24 / 8 /2020، العدد 4903، قصيدة للشاعر علي حسن الفواز بعنوان ((للحسين سعة الرؤيا ودم المعنى)) وعتبة النص هذه جملة اسمية تقدم فيها الخبر جوازاً على المبتدأ ليؤكد ان هذا المعنى لا يليق إلا بالحسين (ع) اذا ما قيست الأمور بمقدار التضحية والظروف المحيطة بالحدث، و(سعة الرؤيا) مسألة عقائدية ترتبط بفكر الحسين (ع) وتمثل افكاراً إنسانية، فهي واسعة لها غوصها في الحقائق الكونية، كالعدالة والحق.
هذه الرؤيا الواسعة تهدف الى معنى حيوي متحرك، وهل يتحرك جسد المعنى وهو بغير دم؟ ان (دم المعنى) منح الفكرة حيوية تشع تضحية، فهو دم (أضاء ملامح الارض) كما عبر السياب في قصيدته (من المغرب العربي).
يطالعنا السطر الاول من القصيدة نثراً، تفوح منه رائحة السرد، مبتدئاً ببداية المسيرة الحسينية في خطواتها الاولى نحو كربلاء، فها هو ذا الحسين (ع) يتقدم الركب يخطو وخطوه، (سفائن رمل) وقد يكون هذا المجاز محيراً للمتلقي بما يوحيه من ظلال الضعف والتفتت، فسفائن الرمل لا تصمد أمام ريح، ولا تقاوم حتى مويجة صغيرة، وخطوات الحسين (ع) عالم و(مدن تمشي) لانها تخطو لتحق الحق لا لمصلحة شخصية او قبلية، ولذلك فهي (مدن تمشي) يقودها دم الاحرار وعلى رأسهم الحسين (ع) الذي يتشظى دمه (دمك اسماء يحفظها السيارة) هذا الدم سيكون – وقد كان فعلا – اسماً على كل شفة محفوظاً تردده قوافل السائرين وتلتقطه كما التقطت يوسف (ع) السيارة من بئر الغدر والخيانة، وكلام الحسين، لأنه كلام مبادئ منزهة عن الباطل فإنه سيبقى على مر الزمان صوتا صادحاً بلغة الحق والخير والجمال، لا مستكيناً كاستكانه (شهرزاد) لرغبات وطغيان (شهريار) فكلام الحسين (ع) لا يهادن على حساب الحق، إنه يصنع بثقة (ذاكرة للصحو) انه صوت سيرة تباركها السماء والارض.
(بسيرتك تهبط الغيمة والنخلة / تبللان الوقت والاصابع بحناء الرطب والماء والبكاء)، ودم الحسين يوجز ويختصر السيرة كلها، ويجعل التاريخ وحقائقه شائعة وكأنها يافطات معلقة على (جدران البيوت) ولذلك فإنَّ هذا الدم يبقى متوهجاً في ذاكرة الحكائين يطرز الليالي بسر فكرة تضيء كل ظلمات الباطل ومفازات التأويل عند هؤلاء الحكائين (الرواديد وقراء المنابر الحسينية)، وبما أن الشاعر لامس طقساً معروفا في عاشوراء بما يفوه به (الرواديد وقراء المنابر الحسينية) فإنه ينتقل من النثر الى الشعر الموزون المقفى (شعر الشطرين)، وهذا الانتقال لم يفرض على القصيدة من خارجها، بل جاء منسجماً مع ما اختزنته ذاكرة الشاعر منذ الطفولة حتى الان، بما يسمع من الحكائين من قصائد تعج بالايقاع والموسيقى، فأتى على ألسنة الحكائين، وبهذا الايقاع وتلك الموسيقى يُثار شجن الجمهور متعاطفاً مع موقف الحسين المبدئي الذي لا يخضع لبهرج الدنيا على حساب المبادئ، بل وقف وقفة البطل الملتزم، غير خاضع لإغراء السلطة
الفاسدة.
(خيرّوا دمك الزاكي بين السلة والذلة) ولكنه بقي متمسكا بما ينسجم ومبادئه (هيهات منا الذلة) هذا الموقف الصلب يمتلك خلوده، فهو (يسوح الارض، يدخل الاناشيد والقواميس والخرائط) انه موقف التضحية وتأويله يثير (سؤال العقل واستعارة اللغة، ودراية الفكر، وبوح العازم وأنين الناعي، وامتلاء الشهادة).
ختام القصيدة ينتقل ثانية من النثر الى شعر الشطرين، فيختار الشاعر البحر الكامل هذه المرة، بعد ان كان في المرة السابقة قد اختار البحر البسيط، وهذا الانتقال الثاني من نثر الى شعر يذكرنا بما فعله السياب في قصيدته (بور سعيد)، اذا تبدأ بشعر الشطرين، ثم تركه منتقلا الى شعر التفعيلة، ولو سأل سائل عن دواعي انتقال الفواز من النثر الى موسيقى وايقاع الكامل، فإنه يذكرنا مرة أخرى بما في ذاكرتنا الجمعية مما سمعنا من قصائد الرواديد والقراء الحسينيين، تلك القصائد التي تعج – كما ذكرنا – بالايقاعات والموسيقى، وكأن الشاعر يعود مرة أخرى ليلامس اوتار عاطفته المترعة بما سمع في الطفولة، وما زال يسمع، فجاء البحر الكامل بطول تفعيلته (مُتَفاعلن) ليعبر عن أمواج حزن يملأ القلوب، وجاءت القافية نونيةً لتضيف ايقاعا للإيقاع، لما في النون من غُنّة تثير الشجن: دَرّ لِصوتك إذ يصير زمانا – تهفو له الخطوب
لِساناً.
نعم هذا هو الحسين (ع)، فصوته يتجاوز الفردية، فهو زمان ممتد ينطق بالحق، ولذلك تهفو له الامور كلها، ليكون لسانها حتى يطهرها من دنس الباطل بسيل دمه الزكي فهو امام ليس كمثل امام يخشى في الحق لومة لائم، وقد جسد الراحل محمد علي الخفاجي في (ثانية يجيء الحسين) موقف وتضحية الحسين (ع) الرافض للخنوع: (وامام يسمع بالظلم ويرضى أن يغمد سيفه/ لكأني يغمده في أعناق المظلومين).
هذا هو الحسين (ع) شمس الحق التي لا تغيب، ومن اشعاعها يصوغ المبدعون قلائد الابداع ومنهم علي حسن
الفواز.