في بيئة تتنفّس الشّعر والمعرفة والفقه والبلاغة حيث القصائد وإنشادها سلوة للمتسامرين والنقاشات العلمية والفقهية ديدن المتناقشين، ولد جعفر أسد الخليلي في النجف ذات نهار أبيض ناصع مطلع القرن العشرين في سنة اخُتلف فيها ما بين (1904 أو 1903 أو 1902) لكنَّ الثابت والأكيد أنه ولد ذلك اليوم أحد نوابغ زمانه وعلامة من علامات الصحافة الحرّة الملتزمة والأدب الرفيع في العراق.
عُجنت نشأته الفكرية الأولى بكلّ ما في هذه المدينة الخصبة من رؤى وخيالات منذ أن درج صبيّاً في باحاتها الضيقة وفي سراديبها الهادئة الآسرة، ومنذ أن دنا من رفوف مكتباتها الكثيرة ومن بينها مكتبة والده الكبيرة العامرة، هكذا نشأ هذا الطفل الشغوف النبه ليتهجأ حرفه الأول في المدرسة العلوية التي غرست بذار الرصانة في قلبه المعطاء الحافظ لكل شاردة وواردة، فانحاز تماماً الى جانب الأدب وابتعد كثيراً عن تراث عائلته ومهنتها: (الطب الشعبي ) مع العلم أنها كانت من المهن المهمة آنذاك لقلّة المستشفيات وتأخر علوم الطب والصيدلة.
تخرّج بعدها الخليلي في دورة تربويَّة بعد إكماله الإعدادية ليكون معلّماً.. نعم هكذا كانت البداية مديراً في ابتدائية ثمّ مدرساً في الثانوية لكنه لم يألف حياة الوظيفة فاستقال من التعليم ليدخل معترك الصحافة فأصدر جريدة (الفجر الصادق) عام (1930م) في النجف وكانت أسبوعية وبعدها اصدر في العام (1934 م) جريدة (الراعي) وهي أسبوعية أدبية دامت سنة واحدة ومنعت وسحب امتيازها العام (1935 م) ولكنه الصحفي الصّلب العنيد الذي لا تثنيه المفازات فعاد ليصدر جريدة (الهاتف) في النجف منذ العام (1935م) ثمّ انتقل بها لبغداد عام (1948م) لتصبح صحيفة يومية سياسية.. و»الهاتف» لم تكن جريدة فحسب بل كانت منتدى ثقافياً وفكرياً أرتاده نخبة من أدباء العراق والعرب، لكنْ ما لبثت حكومة نوري السعيد (1888 - 1958) أنْ سحبت امتيازها بمرسوم خاص عام 1954؛ وكان عمرها أكثر من عشرين عاماً.
وكانت جريدة شهيرة لها حضورها مهتمة بالقضايا الوطنيَّة وتصدر كل سنة عدداً خاصاً بأكثر من (200) صفحة يضمّ أشهر القصص ومنها ما هو مترجم لكبار القصاصيين، وفيها بزغت نجوم لأسماء لامعة في تأريخ القصة العراقيَّة.
في العام (1972 م) كتب المستشرق جون توماس أطروحته للدكتوراه (جعفر الخليلي والقصة العراقية الحديثة) بجامعة ميشيغان وهذا يدلّ على مكانة الرجل ودوره الكبير في السرد العراقي الحديث.
والخليلي غزير الإنتاج ومن أهم أعماله: (موسوعة العتبات المقدسة)، و(هكذا عرفتهم) و(هؤلاء الناس)، (كنت معهم في السجن) وهو استعراض لجرائم في سجن بغداد ومعالجاتها، (الضائع)، (أولاد الخليلي)، (على هامش الثورة العراقية)، (عندما كنت قاضياً)، (يوميات)، (جغرافية البلاد العربية)، (حديث القوة)، (اعترافات)، (تسواهن)، (من فوق الرابية)، (مجتمع المتناقضات)، (من قرى الجن) وهي قصة طويلة، (التعساء)، و(من فوق الأبنية).
وقد قاربت مؤلفاته الـ (43) كتاباً، وكان فضلاً عن العربية يتقن الفارسية وذا ثقافة موسوعيَّة جعلته أحد أعلام العراق.. عام 1985 أغمض عينيه للمرة الأخيرة في دبي لتنتهي حياته الجسديَّة، لكنَّ روحه المبثوثة في أعماله خالدة وستبقى شاهدة على عمق وأصالة ما ترك من تراث.