جيش الدولة وجيوش الدويلات

آراء 2020/09/13
...

   عبدالامير المجر 
 
لا أحد يعرف بالضبط متى تأسس اول (جيش) في العالم، وفي اية بقعة من الارض، لكن البشرية غالبا ما تعارفت الى بعضها من خلال الجيوش! اي عندما تغزو جماعة ما جماعة اخرى، وظلت هذه الثقافة البدائية سائدة الى اليوم، اختلف شكلها وبقي جوهرها.. والسؤال الذي يطرح نفسه، هل تأسس اول جيش من تلقاء نفسه ام ان هناك من عمل عليه وأعدّه في مكان ما من الارض، ليدحر به منافسيه القريبين قبل ان يصبح من خلاله الحاكم بأمره، ومن ثم يدحر الجماعات الاخرى الأبعد، لتتأسس على خلفية ذلك الدول والممالك والامبراطوريات؟.. بلا ادنى شك ان قانون القوة ذاك هو من افرز تلك (الدول)، والذي تجلى من خلال تلك الجيوش، وهو الذي فرض ماسمي لاحقا بقوة القانون، اي ان القانون الذي انضجه في ما بعد عقل الدولة، لاينفذ ولايحترم من دون وجودة قوة تقهر المتمردين عليه! ومن هنا جاءت عبارة (انفاذ القانون). والقوانين نفسها مرّت بمراحل عديدة قبل ان تصبح مقبولة نسبيا، وما زال امامها الكثير لتكون عادلة وموحدة لجميع البشر، لان قانون القوة السابق لها، يأبى ان يتراجع كثيرا، بل انه كلما تراجع بعض الشيء عاد واخذ مكانه القريب من قوة القانون حتى في المحافل الدولية الكبرى!
عندما تأسست الدولة العراقية في العام 1921 فإنها قامت على تركة قرون من التخلف والاهمال، وان سكان الولايات العراقية الثلاث لم يعرفوا ثقافة الجيش، سوى ما كانوا يسمونه (السفر بر) الذي يعني اخذ الشاب من بيت اهله عنوة ليجد نفسه في اقاصي حدود الامبراطورية العثمانية المشتبكة مع اعدائها في اكثر من جبهة وقتذاك، وقد يحالفه الحظ بالعودة بعد غيبة طويلة، وقد لايعود ابدا وهو ما كان يحصل غالبا.. لذا كانت هذه الصورة حاضرة في اذهان الناس البسطاء، ممن لم يتقبلوا في البداية، قانون (الخدمة الاجبارية ) الذي عمل عليه مؤسسو الدولة العراقية الحديثة، لكي يجعلوا لها عمودا فقريا يمكّنها من الوقوف على قدميها لتفرض القانون بالقوة ولتدحر قانون القوة، الذي كان سائدا، لاسيما بين العشائر المتنازعة باستمرار، نتيجة لغياب القانون وغياب القوة التي تجعله نافذا معا، وكانت هذه واحدة من اكبر المعضلات التي واجهت المؤسستين.
 وفي العموم كانت لدينا نواة لجيش عراقي، تأسست قبل تأسيس الدولة بأكثر من سبعة اشهر، لكنه ظل يحتاج الكثير ليكون جيشا بالمعنى الحقيقي، واول ما يحتاجه هو ان يستقطب اكبر عدد من الشباب من مختلف (الوية) البلاد، وكان الهدف مزدوجا، اي خلق ثقافة وطنية من خلال هذا المصهر الكبير الذي يلتقي فيه ابناء العشائر المختلفة على هدف واحد هو الدفاع عن الوطن، ولسحب اكبر عدد منهم لتشكيل قوة تقف بوجه من يتمرد على الدولة وقوانيها. وكانت هذه الثقافة الجديدة، بمثابة البداية لبناء دولة، كانت تتعثر بالكثير من المطبات التي اعترضت مسيرها. يؤسفنا القول، ان عراق اليوم، يعاني من ثقافة قانون القوة، التي تبناها البعض على حساب قوة القانون، بعد ان فقدت الدولة قوة عمودها الفقري المتمثل بالجيش، وان عودتها كدولة لاتتحقق الا بعودة الجيش قويا، لان التجارب القاسية علّمتنا وعلّمت الكثير من الدول، ان فلسفة الجيوش لاتختزل بالدفاع عن حدود الوطن، بل بالدفاع عن حدود القانون، الذي بات يصنع الدول ويحميها من بعض ابنائها ممن يتربصون بها ليقيموا دويلاتهم وكانتوناتهم الخاصة، ويفرضوا قوانينهم على 
الناس! 
الشواهد التي تؤكد هذه الحقيقة كثيرة وفي اكثر من بلد، وباتت شاخصة أمام الجميع.