صورةُ حدثٍ مجازيَّة بفهم أورفيوسي

ثقافة 2020/09/14
...

زعيم نصار
 
أنا مصممٌ على عدم العودة الى الوراء،
إن سمحتم لي بقول الحقيقة،
بعيداً عن موارباتِ اللغة الخادعة.
أوفيد
تنفتحُ قصائد محمد تركي النصار أو كتابتُه الشعرية على نوعٍ من الالتقاطة اليومية للحدث المختلف في سائر أيامه، أن رؤيته الكلية التي يقدمها عن العالم وله، هي إعادة خلق لما يمكن أن أسميه بـــ (سيرة الأحداث) حيث للحدث بلاغته وفصاحته في لغة الشاعر، ويتوسطها بين لحظتين، اللحظة الأسطورية واللحظة الواقعية الآن.
إن ما تقدمُهُ تجربةُ الشاعر، وما يولّدهُ فكرهُ ويخلقه، من خلال علاقة انعكاسية بين مرآتين متواجهتين، تعكسان صورة الحدث، ولكن بكلامين مختلفين، وبلحظتين متباعدتين ومتحدتين في الوقت نفسه، يتنوعُ فيهما الزمن، وتشتبكُ الذات باللغة فتتشظيان، ويتبادل المكانُ موقعه مع الزمن.
إن الشاعر محمد تركي النصار يتكلّم وكما في الاحاديث العادية أما عن نفسه او عن أشياء أخرى، حدثتْ أمام عينيه ومسمعه وقلبه، معالجاً موضوعه في كلتا الحالتين كتجريد مستخلص من التجربة، وكموضوع تام بمعناه، وبهذا أرى ان فضاءه الشعري الكلي ينتمي لشعر التجربة الذاتية والموضوعية في الوقت ذاته، وهذه التجربة تعبر عن الموجود الحاضر، كما لو كان مأساة وغياباً، وتنشطرُ الى ثنائيات في التعبير عن الرؤية والرؤيا: ثنائية الهدم والإنقاذ، إذ ينقذُ من الهدمِ الشيء الأساسي في التجربة الانسانية، التي تتوسط بين الخلق والتكاثر في الحياة من جهة، والموت والغياب من جهة أخرى، هنا يكون الشاعرُ رمزاً للإنسان الذي ينقذنا بمعانيه وكلماته، إذ عمله الشعري يشارك بقوة للإنقاذ، وبلوعة ثنائية ثانية هي قوة اليأس والأمل: يقول محمد 
(طفولة ينفقها/ اليأسُ والبرق/ تنظف أرض الانتظار/ من الليل الغريب 
 بقيتْ لديّ كلبةٌ واحدةٌ/ وها أنذا أرميها الى النهر/ أرميها بقوة اليأس) 
إذ الكتابة الشعرية بين يديه، هي محاولة لترميم خراب العالم وتخلصيه من هذا الزوال السريع، واللاهث نحو الهاوية، ويتحاورُ اليأسُ والأمل في متنه الشعري.
الشاعر هو أسمى أنموذج للإنسان الصانع، إذ يتركز تفكيره واهتمامه بأسلوب كتابته للشعر والتفنن فيه من حيث الدقة والاتقان في بناء القصيدة، هنا ينبغي لأي عمل شعري مختلف ومتميز، ان يتم على ضوء ابتكار واحتراف هذه الصنعة بمهارة فائقة. من هنا اخترتُ للشاعر محمد تركي النصار قصيدة مفتاحية لتجربته الشعرية الكلية، وهي قصيدة (سهو أورفيوس) التي توجد تجربتها ورؤيتها ووقائعها متماثلة مع موضوعها في كل الاعمال الشعرية للشاعر منذ العقد التاسع للقرن العشرين، وحتى هذه اللحظة. 
وسهو اورفيوس قصيدة كلية معقدة التركيب، تبرز فيها عدة محاور تكاد تكون مستقلة بذاتها، إذ يتفتت مركزها الى مجموعة من المراكز المتعددة، لكل مركز بؤرة قائمة بذاتها، ولها عدة دوائر تدور في مشهدها الكلي، ومن هنا ينتج طولها المعقد والمركب بخلاف قصيدة الومضة ذات الجملة الشعرية الواحدة وهي جاهزة للتبلور كبؤرة انفجارية، وبخلاف القصيدة القصيرة البسيطة التركيب التي تتشكل من محور، وبؤرة واحدة، إذ تتفجر فيها دورات تحوم حول مركز أساسي ويتم تقديمها من خلال جمل شعرية. يقول الشاعر محمد تركي النصار: 
((أُريدُ أنْ أصنع تمثالا، لا للموت؛ بل للرغبةِ فيه/ أُريدُ أنْ أطفئ النور، وأسدلَ الستار على عصر البهلواناتِ/ الخاسرين الذاهبين إلى تفاهةِ الخطواتِ والضحكِ الأصفر. / وحيدا أفرق بين العربة والطين،/ ما الفتوةُ؛ لنخسر عشرين عاما في التعرُّفِ عليها/ وخمسةً وعشرينَ أخرى في رثائها؟/ أأنزفُ ذهني لأحمي هذا الجسر المؤدي الى حارسة الجحيم/ مرّوا جميعاً قرب أسوار طيبة ولم يفهموا ظلام السؤال/ أنا قويّ لأني يائس .. قال الشاعر لصاحبة الحانة/ أتسنى أيها الملك الضليل ناقتك قربها وتوصي ابنة جارتها بهذه القطة المسمومة العينين/ أم تلفت سهو أورفيوس لتشنق اوتاره بثلاثة أرباع وهمك/ فيشفى التلفت .. وتحمل جثة العازف وتذهبان الى حيث لصّ حلمك/ ماذا؟ أيدفن الشاهدُ شاهدة وينسى الميّت عند باب المقبرة، أم نبدأ حوارنا في خمّارة ما ونعطي له كأساً من حليب العنز)).
إن هذه الابتكارات الكلامية توهمنا،ـ لنعطي لمفهوم الشعر فكرة أولوية اللغة على التجربة، يوهمنا باستقلالية العمل الشعري، بوصفه حقيقة جمالية ذاتية مستقلة عن الواقع، لكننا بقراءة عميقة نكتشف ان الأورفيوسية التي في النص ترى أن الشعر يؤدي وظيفة دلالية بتجسيد أو تحديد التجربة أكثر من تقليدها، وهي جزء من مجموعة كلمات تخلق مفهوماً عن الأحداث اليومية، وذلك عوضاً عن مجرد عكس الواقع، لأن الشاعر فيها يعطي تفسيراً أورفيوسياً له، فيحتاج الشعر فيه إلى علاقة أولية واضحة مع الحياة، كما تبدو للحواس، ولكن حينما تدخل هذه المداركُ في القصيدة فإنها تقع تحت سيطرة الخيال.
إن عالم القصيدة ليس العالم الحقيقي، بل نظير مساوٍ له في الأصالة، إذ الكتابة قائمة على المحاكاة والخيال في آن واحد، وتنسجم مع الفهم الاورفيوسي، إذ لا حياة في اللغة ما دامت تسعى لأن تكون مثل الحياة، ينبغي أن يأتي في المقام الأول تحول الملكات الشخصية الى العالم الواقعي الوحيد الذي يعرفه الناس: عالم الخيال عالمنا بالذات تماماً.
يستنجد الشاعر محمد تركي النصار الذي استعار مفتاح الخلاص لاستعادة الحياة، من الشاعر أورفيوس، صاحب القيثارة المعروف بإيقاظ الروح في الجماد، والمشارك في تكاثر الحياة، الذاهب لإعادة حبيبته من عالم الأموات بقوة موسيقاه وشعره، الذي استطاع ان يسيطر به على عقول ناقلي الموتى، وكلاب الحراسة، وقضاة عالم الموت، عطّـل تعذيب الخطاة، وأقنع ملك الموت هاديس باسترجاع حبيبته يوريديس شرط ان لا يلتف الى الوراء، وهو يجتاز طريقه الى عالم الحياة. أورفيوس شاعر قوي وعارف شكـّاك، والذي يمتلك تلك القوة، قوة ترويض العقول والسيطرة على المتوحش فيها، لا بد أن يدفع الثمن.
هل شكّ بصدق هاديس في آخر الشوط، شكّ بشرطه، شكّ فالتفت، التفاتة أورفيوس، التفاتة عاشق يعيش التجربة ولا يؤمن باكتمالها، وكما جاء في عبارة أحد العارفين "متلفت لا يصل" والشاعر ببعده الروحاني، قتيل شهيد يعمل ويتألم لكي يحقق الخلاص لعالم مهدد بالموت والانقراض، الذي يتمثله الشاعر محمد النصار بقوله: ((وماذا بوسعي أن أفعل سوى أنْ أطرد ذباب الذكريات/ عن رأس هذه الأفعى التي تتلوى خارجَ الكأس؟ تحية للنبع الذي تضفره الشمس إكليلا من الكلمات أيها المنفى.. تدحرجين الصخرة فوق جمرة ننوء بها، وتدفعين الأيام فوق الغياب. كيف نحتمل هذه الأيام فيما اللغة ظلام صخري ومعول الشاعر خائن كبير؟ لا الموت غريب كما يبدو ولا الأرقام/ ثمة الأمس الذي تكفنه المواربة السوداء/ ذئاب دون منفى لا تصنع شيئا بحياتها/ والدسائس توريات الظلام. ))
هكذا يكتمل عمل الشاعر، في تقلباته بين اليأس والأمل، لإنقاذ العالم من الهدم، من الممكن هنا أن ننظر للقصيدة على انها سفينة أوتونبشتم، الذي حمل فيها بذرةَ كلّ ذي حياة، لتنقذ الانسان بوصفه العالم الأصغر مقابل العالم الأكبر./ وتحسب نفسك جرماً صغيراً .... وفيك انطوى العالم 
الأكبر.
هذه الفكرة هي التماثل، بعينه بين الإنسان والكون بلغة العرفانيين، قصيدة سهو اورفيوس، قصيدة حدث، كلدغة الأفعى ليوريديس حبيبة الشاعر، قصيدة قوية وثرية، بموضوعها الذي يعود بنا وبالعالم الى صورته الأولى، معيداً للكلمة دهشتها، راجعاً الى المنبع الأول، فيتضح لنا ذلك من خلال قول الشاعر:
((ايتها السعادة أعيدي عدمي الساذج، أعيدي عدوّي الواضح/ أعيديه، لأرمي رماد هذه الشمس/ أرميه في سلة الثعلب وآوي إلى دارة الكلمات))
وبما أن الإنسان يشكّل الأشياء حسب قوانين جمالية كما يقول ماركس، أرى في الاستنتاج الأخير: ان كتابة محمد تركي النصار الشعرية يحركها نوعٌ من دينامية التحرير التقدمية، لها فكرها الخاص المشغول بالواقع، وبوضع الإنسان وحالته في العالم، وبالخلاص والانقاذ والافلات من قبضة العدم، والاستغراق في قصيدته لتخليص أعز الكائنات من ظلمات العوالم الجهنمية، فهو يبحث في الموجود بما هو موجود كنسق انطولوجي، فلو تعرّفنا على قوة يأسه، وعمق أمله لوجدنهما قد اعتدلا كجناحين للعقل 
والقلب.