المسكوتُ عنهُ وإدانةُ القبح

ثقافة 2020/09/15
...

 عباس لطيف 
 
 
يقتربُ الخطاب الشعري باستعاراتهِ ورؤاه المتعالية من عبق وجوهر النبؤة، ويمكنُ وفقاً لهذا الفهم من توصيف الشاعر بأنه كائن نبوئي واستشرافي، وهو يؤرخُ الوقائع ويثير الأسئلة ويطلقُ عنان التفحّص لِما تبقّى من الأحلام المحاصرة بالفناء.
 ويبدو المشهد أكثر تأثيراً وبلاغةً إذ يَشرعُ الشاعر برثاء ما تبقّى، ورصد الخراب، وإغراق قصائده بصور العتمة ممزوجة بمناجاة الخلاص وابتكار الحلول، وهذا ما نتلمَّسُهُ في مجموعة الشاعر: رضا المحمداوي الموسومة (حفنةُ دولاراتٍ مُلطَّخة بالدم).
فمنذ الاستهلالات الاولى يضعنا الشاعر إزاء واقع مأزوم مُفَخَّخ بالخراب، ومحاصر بكلِّ أشكال الموت والخيبة والانكسار، فعلى الرغم من (الثيمات) والمضامين وحتى العناوين الصادمة وبضمنها عنوان المجموعة، لكنَّ رضا المحمداوي كانَ مكتظاً بروح الالتقاط، ولم يغبْ عن اشتغالاتِهِ الاهتمام بالأسلوبيات والتقنيات التي من شأنها تأسيس خطاب جمالي عميق الدلالة لا سيِّما وهو يؤرشفُ ويؤرخُ للوجع العراقي و(يؤسطر) ما هو يومي ومُهمَل في زوايا الاحتدام، وليتوِّج تلك الالتقاطات الصادمة والمكتنزة بالإيحاء والرمز، بإظهار وكشف المسكوت عنه في واقعٍ مُلتبسٍ ومُعَقّدٍ وتحيطُ به صور الموت والخيبة والخذلان .
إنَّ الشاعر: رضا المحمداوي في مجموعتهِ هذه ينفردُ على مستوى (الموضوعة) بأنهُ استطاع أنْ يجعل من نصوصهِ الشفيفة والصادمة ذاكرة ليوميات تصطبغ بالأسى، فكانت القصائد تدويناً لواقع الاحتلال وقبح الغزاة وهو يَعبرَونَ جسر الشهداء ليدنسِّوا بـ (همراتهم) أرض الوطن الطهور وليغتصبوا ذاكرة التاريخ ويؤسِّسوا أرضاً لتناسل الكوابيس والأحزان .
إنَّ براعة الشاعر تكمنُ في أنّهُ لم يستسلمْ للخطابية والشعار واللغة المباشرة تحت تأثير المضمون (الثيمة) بل استطاع، عبر بلاغة الاستعارة وتوظيف الصور والإتكاء على المعنى التأويلي البعيد، من ابتكار قصائد جمالية شفيفة على الرغم من مضامينها الصادمة واستغراقها في توثيق الخراب وتفاصيل الانكسار .
وقد استعانَ الشاعر بتقنيات وأداءات شعرية للإفلات من المباشرة، مثل التنوع واستثمار العناصر الفنية والاهتمام بشفافية اللغة، وتعبيرية الرمز وعمق التصوير، فكان التركيز على تقديم نصوص تحتفي بالصورة والالتقاط البصري، وهذه الخاصية تشيرُ إلى اهتمام الشاعر بالصورة السينمائية، حيث دراسته الأكاديمية فضلاً عن عملِهِ كمخرج درامي يسكنهُ هاجس التجسيد الصوري.
 / صَدَقَتْ نبؤتُك يا أبي / فأرِّخْ لموتِكَ اللحظة/ وانصتْ لموسيقى الجنائز/ واطلقْ رؤاكَ/ فالمدى مُحترقٌ/ والدروب غُلّقتْ بوجوهنا / وما من سبيل / سوى الجسر الذي يربطُ بيننا وبينهم/ فوقفنا نَحنُ على حافة الوهم / وعبروا هم دون لهاثٍ/ وانقطعوا عن حبل الكلام / ماعبروا../ ولكن شُبَّهَ لهم. 
وفقَ هذا التأسيس للقصيدة البَصَرية كانت النصوص تتوالى وهي تَتَفحّصُ ما هو يومي من مُوجز الخراب المقبل مثل جراد موبوء، وفي القصيدة الاولى (خطوات على جسر الريح) يوظّفُ الشاعر أيضاً أسلوب التكرار لا سيِّما مفردة (عبروا...) ليعطيها زخماً صورياً وليعمّق معنى أنْ يُشوَّهَ الجنود الغرباء براءة النهر ويدنّسوا هيبة الجسور :
صباحٌ مُحَاصرٌ / بالأسئلةِ والدماء / يخبئُ شمسَهُ خجلاً/ ريثما يَعبرُ الرتلُ الأمريكي / جسرَ الشهداء
ومن بين التقنيات والظواهر الفنية التي تشتغلُ عليها المجموعة الشعرية ما يستخدمُهُ الشاعر من ضربة النهاية أو ما يُسمى في القصة القصيرة بـ (لحظة التنوير) 
وهذه نهايات بعض القصائد :
( وأنا أبتهلُ / بأن لا يتعطَّل البريد / مَرَّةً أخرى)
وفي لحظة تنوير قصيدة (اكتمال) يقول:
(سوفَ أمضي / وأمتشقُ لحظات الجنون/ لاكسرَ الأصنام الواقفة / بوجهِ اكتمالي)
وفي قصيدةٍ أخرى يختمُها بـ :
(خبرٌ عاجلٌ .../ انفجرَ الصباح / وتناثرتْ أشلاء الشمس / في الطرقات)
حفلتْ المجموعة بخاصية الاختزال فجاءتْ النصوص اختزالية اقتربتْ من الشفرة السريعة الدَّالة والعميقة، وتجاوزتْ الاستطرادات التي تثقلُ النسق الشعري.
كما استطاعَ الشاعرُ ببراعةٍ تعبيريةٍ وترميزيةٍ من استعارة الكثير من السور القرآنية وصور وإشارات الموروث الديني ليمنح المعنى دلالة عميقة. 
في نص (بريدٌ مُعطَّلٌ) يقول :-
(أنا المُغنيِّ المجنون/ الذي يجوبُ طرقاتِ المدينة / فبأي آلاء تشهرون سيوفكم / لاكونَ بينكم القتيل)
ما يُميِّز هذه المجموعة الشعرية جماليات التوظيف والسعي إلى كُلِّ ما هو جمالي وإنساني وتعبيري بعيداً عن الإنزلاق في الخطاب الشعاراتي المباشر، فلقد استطاعَ الشاعر: رضا المحمداوي، ووبراعة استثمار تقنيات اللغة، والاستعارة، والترميز، والتجسيد الصوري، أنْ يُعبِّرَ ويُعيدَ إنتاج (ثيمات) الخراب والعتمة ويتوِّج المعنى بإدانة القبح وإفرازات الاحتلال ويسعى في الوقت نفسه، وفي إشارات كثيرة، إلى قوَّة الإنسان وبهاء الأوطان في طرد كوابيس الانكسار والظلام .
إنَّ مجموعة (حفنةُ دولاراتٍ مُلطَّخة بالدم) مجموعة شعرية مكتنزة وتثير الأسئلة وتنتمي إلى الجمال وحمولاته الدالَّة.