الشعرُ العراقيُّ بعمقِهِ وجدَّتِهِ واختلافِه

ثقافة 2020/09/15
...

  استطلاع : صلاح حسن السيلاوي
سماء مزدحمة بالسحابِ وأرضٌ متشابكة الشجر، أولُ الكلام ومتحف الأحلام ومصنعه الساحرُ ومنبرُه، مكامن المباهج وفضائحُ الجواهر النفيسة والنفوس، الغزلانُ المتراكضة في اللغة والأسود، الحمائم التي تنقر قلوب الفواكه الناضجة، اللؤلؤ المختزل لكثير من البحور، الكتب النصف سماوية وهي تأكل وتشرب وتتمشى على هيأة إنسان
هذا وغيره يمثل بعضاً من مشهد الشعر العراقي الذي كان وما زال يحتاج لثورة نقدية تستطيع مواكبةَ قوته وجدته وعمقه ورغبته بتصدر مشاهد الشعر في العالم. هنا نتساءل عن تقييم النقاد لنقد الشعر في السنوات العشر الأخيرة؟،هل نستطيع أن نصف ذلك النقد بصفات معينة؟ ما الذي وصل إليه من فهم لحداثة الشعر وأساليبه؟ هل صحيح أنه صار ينتظر وصول الشعر إليه ولم يعد يحمل مسؤولية البحث المتواصل عن الجديد والمختلف؟، وماذا عن آليات نقد الشعر المفاهيمية ومدى تناسبها مع خصوصية الشعر
العراقي؟
 
إشكالات النقديّة الكبرى
الناقد الدكتور علي حسين يوسف يرى أن النقد الأدبي في العراق في السنوات العشر الأخيرة لا يختلف كثيرا عن النقد في بعض الدول العربية مثل مصر ولبنان وبلدان المغرب والسعودية، حيث اشكالات النقدية الكبرى هي ذاتها موجودة هنا وهناك على السواء، ويلفت يوسف إلى أن منها إشكالية المثاقفة مع الآخر وإشكالية المناهج النقدية وإشكالية الترجمة، مؤكدا أن هذه الاشكاليات الكبرى تكاد تكون سمة بارزة للنقد العربي بصورة عامة والنقد العراقي بصورة خاصة، ثم استدرك يوسف قائلا: لكننا مع ما تقدم لا يمكن أن ننسى أن النقدية العراقية قد شهدت في السنوات الأخيرة حراكاً واضحاً نحو فهم الجو الثقافي السائد في العالم الغربي والعربي، فمثلاً نجد هناك حركة ترجمية واضحة وإن كانت خجولة وهناك ايضاً فهم للمنهجيات النقدية المعاصرة مثلما نجد حساً نقديا معاصراً اتسمت به المدونة النقدية المعاصرة (العراقية) وهذا يدل على أن الناقد العراقي على رغم من الاشكاليات التي ذكرناها يحاول أن يجد موضع قدم في الحراك النقدي العربي والعالمي. 
وأضاف أيضا: وفي ما يتعلق بالمماثلة بين النقد ومناهجه المتبعة ونصوص الشعر العراقي خاصة والأدب العراقي عامةً التي تخضع للفحص النقدي، نجد أن النقدية العراقية سارت في اتجاهين ضمن هذه المسألة، الاتجاه الأول يمكن أن نطلق عليه الاتجاه التغريبي الذي ظل بعيداً عن مناوشة حيثيات المتون المنقودة من خلال اتّكائه على التنظير المفرط واستخدام العدة المفاهيمية الأجنبية؛ لذلك ظل هذا النوع من النقد يسير في وادٍ بعيداً عن الوادي الذي يسير فيه الشعر او الأدب العراقي، أما الاتجاه الآخر فهو الاتجاه الذي حاول الافادة من المنهجيات النقدية مع عدم الابتعاد عن الإرث الثقافي للنصوص المنقودة، وقد واجه هذا الاتجاه صعوبات جمة منها عدم التخلص من المراوحة بين التراث والمعاصرة، ومنها التعسف في التأويل والنقد ومنها أيضاً محاولة سحب العدة المفهومية للمناهج النقدية الغربية من بيئتها الأصلية وتطبيقها على النصوص العربية.
وعن النقد الاكاديمي للشعر العراقي قال: ولا بد من الاشارة إلى النقد الاكاديمي العراقي ونقصد بالنقد الاكاديمي الرسائل والاطاريح التي يكتبها طلاب الدراسات العليا في أقسام اللغة العربية في الجامعات العراقية، فقسم كبير من هذه الدراسات جسدت وعياً اكاديمياً عالياً وضبطاً منهجيا صارما من خلال فهمها العالي والمنضبط للحراك النقدي العالمي، لكن مما يؤسف له أن اغلب تلك الجهود تظل حصة الإهمال ولا ترى النور؛ لذلك اتمنى ان تتوجه الجهود لطبع تلك الأعمال أو المهم منها للافادة والتعريف بما يجري في المناخ
النقدي الجامعي.
 
نقد انتقائي
الناقد علي سعدون تحدث عن رأيه بنقد الشعر في السنوات العشر الاخيرة، لافتا إلى ان النقد كان مواكبا بطريقة انتقائية لطبيعة ما ينشر من شعر في العراق/ مجاميع شعرية ونصوص منشورة هنا وهناك..، انتقائية لا يسببها قصور النقد عن متابعة ما يجري من انتاج واسع وكبير، وانما لأن النقد الذي يشيع اليوم يقترف الانتقائية على وفق المزاج الاجتماعي وليس على اساس الاهتمام بالظاهرة الفنية وتحولاتها الثقافية، ومن ثم يمكننا ان نطلق عليه توصيف النقد الانتقائي.. على حد قوله.
وأضاف سعدون موضحا: ولا أعتقد ان ثمة علاقة بين سمات هذا النقد ومتبنياته لطروحات حداثة الشعر بسبب من ان العلمية التي يتوخاها الناقد او الباحث يمكنه توظيفها على وفق المناهج النصية والثقافية كإجراء نقدي وتطبيقي على النصوص المنتقاة. وأعني أن تلك العلمية لن تمنع الناقد من تطبيقها على أي من النصوص المراد نقدها وتحليلها. وبتقديري الشخصي البسيط اننا بحاجة ماسة الى دراسات نقدية تكشف عن جوهر النصوص الشعرية وتشتبك معها بوسائل معرفية بعيدا عن زيف المديح الذي صار علامة فارقة في علاقة الكتابة الشعرية ونقدها.. أتساءل هنا عن جدوى الكتابة عن النصوص دون الاشتباك معها وفحصها ومعاينتها على وفق المنهجية التي تميز بين شاعر واخر، بين نص مكتوب بلوعة ومعرفة وكد ثقافي ومعرفي وبين نص يكتب على اساس مطابقته لشروط انتاجه كشعر عادي وسائد على وفق الكلائش الشعرية التي تكتب اليوم تحت لافتة عريضة نسميها قصيدة النثر. في حين ان هذا النمط هو من اعقد واصعب انماط كتابة الشعر والوصول الى الشعرية فيه ستكون البرهان الحقيقي على الموهبة والقدرة الفذة على كتابة القصيدة .. 
وقال ايضا: نعم ثمة كسل نقدي لا يسعى بجدية لمتابعة الظاهرة الشعرية وتحديد سماتها وملامحها أسوة بما انتجته النقدية العراقية في عقود سابقة بعد ان افرزت الكثير من التجارب الحقيقية دون سواها على يد عدد من النقاد يقف بمقدمتهم حاتم الصكر وفاضل ثامر ومن ثم محمد صابر عبيد وعباس عبد جاسم.
ثمة تنظيرات كثيرة يتبناها عدد كبير من النقاد المعاصرين في العراق وهي من اكثر الآليات النقدية قدرة على سبر اغوار النصوص ودراستها بعمق ودراية، وبمجملها تصلح لقراءة الشعر العراقي على وفق خصوصيته التي تتصدى لموجبات القبح التي تشيع وتتسع يوما بعد آخر. بمقدور هذا النقد ان يسعى الى قراءة الشعرية العراقية اليوم بمنهج النقد الثقافي وهو المنهج الاكثر احتداما مع النصوص واكتشاف مضمراتها ومقصدياتها ذات النزعة الاحتجاجية في معظمها. اقول بمقدور ذلك النقد ان يفعل ذلك اذا ما تضافرت الجهود على بلورة مشروع نقدي يأخذ على عاتقه
هذه المهمة الكبيرة.
 
أعوام الاكاديمية النقدية
الناقد الدكتور أحمد حسين الظفيري قال: على الرغم من تنامي الحركة النقدية في العراق – لاسيما الأكاديمية- بفعل الانفتاح الحاصل بين الجامعة والمشهد الشعري، لكنني أجد أن هذا النقد ما زال قاصرا عن اللحاق بالمشهد الشعري، وإذا كان ثمة صفة تُطلق على النقد خلال السنوات العشر الأخيرة فأقول إنها أعوام الأكاديمية النقدية، فجلّ المشتغلين الآن في الساحة النقدية المختصة هم من حملة الشهادات، وأعتقد أن ذلك يشكل عنصر قوة للحركة النقدية العراقية، لكن هل تفتقر هذه الحركة لشيء؟
نعم إنها تفتقد لصيغة عمل جماعي، فما زال المفهوم النقدي يقوم على الفردية النقدية، وأعني أن يقوم ناقد بملاحقة ظاهرة شعرية أو عدد من الظواهر وهذا الجهد يصعب المهمة على الناقد لاسيما مع تنامي المشهد الشعري، فمن الأولى أن تقام مختبرات للاشتغالات النقدية أو ورش نقدية تطرح موضوعا أو ظاهرة يكتب فيها ويصار إلى عقد حوارات تخرج بورقة توصيفية للظاهرة أو المنهج.
واضاف الظفيري بقوله: يعتمد النقد الشعري في العراق على المناهج السائدة في النقد – وهو ما يحصل في النقد العربي أيضا- وربما يفتقر النقد العراقي إلى وجود الترجمة والإفادة من اشتغالات النقد العالمي، وبكل الأحوال أعتقد أن الشعر العراقي بحاجة إلى سعة في الأفق النقدي بسبب كثرة الشعراء وتنوع التجارب واختلافها، كذلك كثرة التجريب الشعري – محاولة إيجاد منافذ شعرية جديدة-، فضلا عن استمرار الجماعات الشعرية السابقة (القصيدة الكلاسيكية، قصيدة النثر، جماعة قصيدة شعر، الهايكو...الخ) ونرى كل مدة صعود فن على آخر، وهذا يستلزم من النقاد البحث في حيثيات فن شعري بزمان
 ومكان معينين.
ختاما بات من المهم أن تتشكل مراكز بحث أكاديمية تبحث في الاليات الشعرية الإبداعية، على أن تتخلص من البيروقراطية الإدارية وتنفتح وتستوعب كل التجارب الشعرية العراقية أولا ثم العربية، من أجل خلق بيئة نقدية عراقية خصبة توازي المشهد
الشعري الإبداعي.