مات رايمان
ترجمة: جمال جمعة
تتمتع رواية (الشيخ والبحر) بشهرة خاصة من بين آثار إرنست همينغوي، نُشرت كعمل نهائي مكتمل قبل وفاته، وقد قوبلت بإشادة هائلة. ظهرت (الشيخ والبحر) في عدد 1 ايلول 1952 من مجلة "لايف". بيع منها خمسة ملايين نسخة في غضون يومين فقط، حتى أن فلاديمير نابوكوف المشهور بتعنته كان أحد المعجبين بها، على الرغم من أنه نبذ همينغوي باعتباره كاتبًا "للأجراس، والثيران، والكُرات"، لم يستطع مؤلف كتاب (لوليتا) إلاّ أن يعترف بتقديره لـ "قصة السمكة". فازت رواية (الشيخ والبحر) بجائزة بوليتزر، ووصفت لجنة جائزة نوبل "براعة فن السرد" لهمينغوي في إشارة إلى الرواية، ما الذي يجعل (الشيخ والبحر) عظيمة، وماذا نتعلم منها؟
حتى الأشخاص الذين لديهم آراء معتدلة بشأن همينغوي يميلون إلى الانجذاب إلى هذا الكتاب بالذات، إنه عمل قصير، يمتد على أقل من 130 صفحة بغلاف ورقي، حبكته بسيطة: تدور حول رجل عجوز يصارع سمكة مَرلين ضخمة (سمكة من صنف خيل البحر)، ويفقد صيده لصالح أسماك القرش الجائعة، ويعود إلى الساحل الكوبي. في هذه الصفحات القليلة، تمكن همينغوي من إضفاء نظرة خلابة وحكمة على حكايته. قمنا، أدناه، بتصنيف بعض الدروس التي تسهم في جعل (الشيخ والبحر) عملاً كلاسيكيًا
حقيقيًا.
1 - المثابرة شريعة كونية:
يبدأ همينغوي قصته بوصف الصياد سانتياغو من خلال مظهره. يكتب همينغوي: "كان الشيخ معروقاً شاحباً، انتشرت في مؤخر عنقه تجاعيد عميقة، وعلت خديه القروح السمراء الناشئة عن سرطان الجلد غير المؤذي الذي هو ثمرة انعكاس الشمس على صفحة المياه في المناطق الاستوائية، وكانت تلك القروح تغطي جانبي وجهه، على حين كانت في يديه ندوب عميقة الغور خلفتها الحبال التي علقت في أطرافها ضروب من الأسماك الثقيلة"*. جسد سانتياغو موسوم بآثار معركته الطويلة ضد عدائية الطبيعة، لكن ندوبه ليست قبيحة، إذ بدلاً من ذلك، تلاءمت وأضفت جمالاً من خلال الكفاح الممجّد الذي تشكلت فيه.
الحيوانات تشبهنا إلى حد كبير. عند النظر باتجاه السماء، يبدأ الصياد بالشعور "بالأسف على الطيور.. لماذا جعلوا الطيور رقيقة ورائعة إلى هذا الحدّ ما دام البحر يبتلعها حينما يكون المحيط متوحشاً جدًا؟". بالنسبة إلى همينغوي، تُكتسب الهيبة من خلال القوة في خضم الصراع، والقدرة على مواصلة المضي قدمًا على الرغم من الألم والإرهاق. في نهاية الكتاب، يلخص المؤلف هذه الروح بهذا السطر الشهير: "الإنسان لم يُخلق للهزيمة، يمكن تحطيمه، لكن لا يمكن هزيمته".
2 - الإنسان والحيوان أكثر تشابهًا مما نعتقد:
سانتياغو لا يكره خصمه سمكة المَرلين، بل إنه بالأحرى يبجّلها. هذا هو الاختلاف الوحيد الذي يمكن أن يفصل بين الأسماك والجنس البشري: "إنها ليست ذكية مثلنا نحن الذين نقتلها، رغم أنها أكثر نبلاً وقدرة". إنه يشعر باحترام للسمكة في معركته، فلسمكة المرلين فضائلها القوية، وله أيضاً فضائله. يدرك سانتياغو أن في براري الطبيعة، كل أشكال الحياة متساوية. البحر لا ينتقي الأفضل. يرفض الصياد النبيل أن ينصب نفسه حاكماً صالحاً على الحيوانات، ويقرّ، بدلاً من ذلك، بأخوّته العظيمة مع جميع ما حوله.
3 - بعض الأمور من المفترض أن تظل غامضة:
يرى سانتياغو أن من الظلم قتل السمكة بكل "عظمتها ومجدها". فمن يكون هو ليقتل هذا المخلوق الرائع، الجليل؟ إنه يعتبر أن قتل السمكة قد يكون خطيئة، على الرغم من أنه يفعل ذلك لإطعام نفسه والآخرين. يصمم سانتياغو على وضع هذا الإحساس بالذنب الكوني جانبًا، مقرراً ترك الأمر لأشخاص أكثر كفاءة منه للتفكير في أمور الخطيئة، إنه يتصالح مع أفعاله بقوله لنفسه، "أنتَ ولدتَ لتكون صيادًا كما ولدتِ السمكة لتكون سمكة".
4 - نحن بحاجة إلى الأمل لننجو من الهزيمة:
حينما يربط سانتياغو سمكة المرلين الميتة بزورقه الصغير يدرك ضخامتها، إنها أكبر من القارب ذاته بكثير. وبينما يفوز في معركته ضد السمكة، فإن عمله أبعد ما يكون عن الانتهاء. ينبغي أن يعود إلى الميناء، فينغمس في معركة شاقة ضد أسماك القرش الجائعة. إنه يحاربها بالمجداف والحربة، لكنها تتغلب عليه، مفترسة معظم صيده الثمين. ومع ذلك فهو لا يغتاظ من قدره، لا يدع المرارة تنهشه ولا خيبة الأمل. وبدلاً من ذلك، يأمل الصياد ألا يُقلق سكان القرية بسبب تواجده بعيدًا لفترة طويلة، ويتذكر الأشخاص في موطنه هناك، ويتطلع إلى الاستمتاع بسرير "صديقه".
5 - الآخرون لن يفهموا معاناتنا، ولا بأس في ذلك:
بعد وصول سانتياغو إلى الساحل، يلمح السائحون العمود الفقري الأبيض لسمكة المرلين "التي أضحت الآن مجرد نفاية بانتظار أن يجرفها تيار المدّ والجزر".
ثمة نادل متحدث بالإسبانية يحاول شرح المشهد، ويتمكن من قول كلمة "قرش" بلكنة مكسّرة "Eshark". يسيء السائحون الفضوليون فهمه، ويعتقدون بدلاً من ذلك أن الهيكل العظمي يعود إلى سمكة قرش، والتي هي، على أي حال، مخلوقات خالية من العظام. هذا الحدث، الذي تختتم به الرواية، يشير إلى أن حاجز اللغة سواء كان موجوداً أم لا، فإن سانتياغو والبحر فقط سيعرفان الحقيقة على الدوام.
* (استعنّا بترجمة منير البعلبكي تقديراً لريادته). عن: Books Tell You Why