ياسين النصيِّر
نادرا ما ننتبه على أجسادنا بوصفها كيانات وجودية في هذا العالم، وليست مجموعة الكيلوغرامات من اللحم والعظام والدم، والمطلوب منا، مداراتها واصلاحها من أي عطب مرضي يصادفها، لذلك أصبح الجسد في عدد من الفلسفات، الأرضيَّة الأساسية في فهم الحداثة وما بعد الحداثة، "فجسد الحداثة هو التراجع عن التقاليد الشعبية" واعتماد الفردية في ما بعد الحداثة "يدل على الحدود بين فرد وآخر، وعلى انغلاق الشخص على ذاته". ولأن الجسد الكيان الذي تختبر كل الفلسفات فيه مفرداتها وتصوراتها، أصبح مختبرًا لاختبار الأدوية والعلاجات والأمراض، فالعلاقة بين المؤسسة الطبية ومؤسسة الجسد علاقة اجتماعية ونفسية وثقافية واقتصادية، تبدأ من الولادة ولا تنتهي مهمتها حتى بعد الموت، كما أن الجسد الثيمة التي قامت عليها فلسفات الأديان والسلطات، أن معرفة العالم لا تتم إلا من خلال الجسد، فالاتصال " بالعالم ليس سوى بعدٍ من الأبعاد الروحية التي يجعلها الجسد مُمكنة. إن الجسد هو الذي يجعل التجربة الروحية متقدة. ويضفي عليها الرغبة العارمة، واللذة، والألم، والبهجة، والندامة. وبدون كل هذه الأشياء، الروحية لاطعم لها. ففي التقاليد الروحية عبر العالم، كان الجنس والفن والموسيقى والرقص وتذوق الأكل،لآلاف السنين، من أشكال التجربة الروحية، شأنها شأن الممارسة الطقوسية، والتأمل والصلاة." ليس عبر حواسه فقط، إنما لوجوده ككينونة فاعلة في محيطه.
إنَّ الصورة الواقعية عن العالم أو المتخيلة لايمكن معرفتها من دون الجسد، فهو الشاشة التي تعرض عليها تطورات التقنية، كما تعرض عليه أحلام نومنا وأحلام يقظتنا الشعرية، إضافة إلى أنه الكيان الذي يُفكر به فلسفيًا. فالجسد الإنساني يمتلك من المفاهيم لا حدَّ لها لرؤية كيفية تشكل العالم، وعلينا أن نميز بين: حقول الجسد، وحقول الإنسان، وحقول النفس، وحقول البدن. هذه الحقول المنضوية في مستعمرة الجسد لها توصيفاتها المختلفة، فحقول الجسد هي الكيان الذي يباشر وجودنا في العالم. أما حقول الإنسان فترتبط بنوعه ومهماته واشتغاله الفكري وتميزه عن بقية الأحياء، لأنه كائن يفكر بالتغيير. أما حقول النَفْس، المختصة بتعيين الجنس تتعلق بالنَفْس الإنسانية، وتنوعها الذكوري والأنثوي، وهذه مختلفة عن "النَفَسْ" أي استنشاق الهواء. أما حقل البدن، فيختص بالمعرفة، المحسوسة أي" المعرفة المادية، "ظاهرة بيولوجية أصلية تكون في خدمة السلوك وبذلك تكون مترسخة تمامًا في المعيش، غير أنها تستقل نسبيًا لدى الحيوانات العليا" فالبدن وسيط مادي للكلمة المنطوقة" ولم يقتصر مفهوم الجسد عند الكائن الحي على هذه الحقول فقط، فقد أصبح مفهومًا لكل شيء مشيد، فيقال المدينة جسد، الفكر جسد، الحداثة جسد، السياسة جسد، الاقتصاد جسد. والسبب أن كل شيء مشيد يقبل التغيير يكون عرضة للتطور هو جسد، والصلة بين الجسد والكون تلخصها الفلسفة اليابانية عندما جعلت عناصرالكون خمسة باضافة الخشب إليها."إن هذه الأسس الخمسة للكون تُعطي خمسة جذور قاموسية تُوَلِّد عددًا من المصطلحات التشريحية التي تُدرج في أوردة اللغة الصلة بين الجسد البشري والكون" ويقول دومنينيك بيّان إن: لاجزاء الجسد البشري رمزية في بعض اللغات في "الجسد البشري، الطبيعة، الثقافة، ومافوق الطبيعي" ، فمركب الفم له قدرة لإعادة تنظيم الثقافة فهو (يقضم، ويأكل، ويهضم، ويتكلم)، وهذا يعني أنه يهيمن على 90 % من اللغة التي نستعملها، فالمشي قضًما للمسافة، وفهم المحاضرة هضمًا للمعلومات، وصرف الراتب الشهري أكلًا للدخل الشهري، وهكذا لو تأملت اللغة الاجتماعيَّة لا تجدها بعيدة عن سياق قضم/ أكل/ هضم.
فمن خلال دراسة عالم البيت نفهم طاقة الجسد في التنظيم الداخلي للمنزل، وترتيب مسألتي الجنس والعلاقة العمرية، ومن خلال دراسة حقول الأسواق والحدائق والعوالم الخارجية، نفهم طاقات الجسد الرياضية، ومن خلال دراسة الروزنامة والساعة وتقسيمات الليل والنهار يتضح معنى الجسد العملي في المواقيت والوجود، ولك أن تجد العلاقة بين الرياضيات واللعب، الفلسفة والـتأمل، ..الخ، إن فهمنا لقوى أجسادنا، يعني تأسيسنا لإطار منهجي يعلمنا كيف
نعيش.