الشاعرُ «محتالاً» في «باذبين»

ثقافة 2020/09/16
...

 علي إبراهيم الياسري
« كل طارق شريك، نجمة في ليل العائلة، كل خطوة خارج الحياة قادمة لنا ولو بعد حين”.
كتاب باذبين- “بيت تحرسه سدرتان»
 
«1»
يستجيب الشعرُ في كتاب “باذبين” للشاعر علي محمود خضير والصادر عن دار الرافدين، لشروط الحياة بعد أن يحولها إلى مضامين وينزع عن اليومي غبار الحدث الطارئ، لتغدو اللحظة ناضجة فسيحة طيعة للإصغاء، فلا يبدو الشعرُ صراخاً ولا استجداءً لمفارقة هنا وأخرى هناك، ولا مجرد لغة تزدان حروفها، بل تلك اللحظة الصامتة التي تتيحُ لقارئها النطقَ. 
 
«2»
فنٌ أن يصغي الشاعر إلى السارد. وأكثر من ذلك هو ما فعله الكاتب في “باذبين”. حتى أظنه يتمرد عليه، يرقب صمته والتقاطه نفساً بعد فارزة أو نقطة ليمد عنقه إلى النص، فيسدد جملة أو ينفث آهة. وإن كان هذا التعدد في مستويات النص وطرق بنائه ظاهراً في قصائد شعراء قصيدة النثر، لكنه هنا، في هذا الكتاب، يبدو موقفاً بدئياً ومدركاً ومحدّداً منذ البداية، كأنّ الشاعر الممهور منذ زمن بعيد لأن يكون لساناً للحال والمحال والحياة والموت والأحلام والأمنيات الضالة، أدرك وجوب أن يسلك سياقاً مجدِّدا مستعيناً بأدوات ساردٍ يعرفه ومستنداً إلى مكان خبره وعاش فيه.
وهنا أجدني بين سياقين: سارد في “باذبين” للآن، وشاعر يستغل مشاغل الذكريات وآثارها، ليعود إلى مكان ومكين مستحيل لا يمكن استعادته إلا بالشعر. فاللحظة التي تستقر في “باذبين” نثراً خالصاً هي لحظة ماضوية رياضية سرعان ما يجعل منها الشاعر لحظة تتمدد على الزمن بل تجتازه لتبدو سؤالاً لا تاريخياً فوقياً يطل على الحياة وشروطها التي لا تؤدي إليها.
تحايلَ المؤلف هنا على سارده مراراً، وانحاز إلى الشاعر حينَ غلّب الوصف على السرد “حينما يبدأ الوصف يتوقف السرد” وهذا ما جعل الفضاء الشعوري مؤثثاً وجاهزاً لسحب كل جملة إليه فتتجلى شعراً.. فما من كلمة حتى لو كانت بسيطة تقال في منطقة تحرسها هالة الشعر إلا وكانت شعراً.
فها هو الكاتب (في نص بيت تحرسه سدرتان) سارداً وواصفاً يسترسل بإدراج حكايات وملامح بيت ليس بيتاً فحسب، بل مجهر تتراءى من خلاله حياة في قرية، حياة يتخيلها أبناء المدن الكبرى ضئيلة ولا تساوي إلا معنى العيش. فيستحضر صبياً يحدّق إلى السقف متمدداً مستعداً للنوم، وهو يحلم ويسافر في خياله جاعلًا ليله بساطاً سحرياً للمغامرة، يغرق بوصف تفاصيل البيت العادية المستترة بجلالة السكينة والسكون إلى أن يطل الشاعرُ مستفسراً: «بيتٌ أم خان أعاجيب؟!»
ولا أجد الكتلة النثرية في هذا الكتاب إلا طريقة ماكرة لقول الشعر، فالإحالات التي تتم من خلال جملة تبدو شائعة من قبيل “والقطة كسلانة تتمطى في الفرجة بين الهول والطارمة” ليست إلا إحكاما حرّاً على عقل قارئ نجيب، شرَعَ بالسفر هو الآخر إلى تذكّر كل قطة تنعم بجنة الكسل والدعة والخمول ومحولا هذا المشهد المتكرر في حياتنا إلى مشهد أثير ومؤثر فيما لو قورنت بأوقات الظهيرة الصاخبة الني نحياها الآن في حياة لا توفر للإنسان أبسط شروط الراحة والأمان.
 
«3»
وإن كانت خصوصية الشعرِ تتأتى من المواربة الأبدية لكل معنى، فما أن تقول هو ذا حتى يقول الآخرون هو ذاك.. وإن كان الشاعر جهاراً يقول: « في باذبين الأبواب دون أقفال ومفاتيح» 
فإنه يهمس همسا إذ يقول: «بابٌ يغلق على سرٍ مدّخر إلى اللحد»
 وما بين “الأبواب” التي دون أقفال ومفاتيح و”باب” مغلق على سر حتى الموت تتضح مهارة المؤلف وهو يضع مقابل كل باب مجهول سرّاً (منفرداً) وعقيماً على البوح.. سراً مكتوماً ووجودياً.. معارضاً حكمة الأبواب التي تلتصق ب(أل) وهي تترك انطباعاً متساوياً ومعروفاً لكل الحيوات 
والأحلام والأسرار.
 
«4»
هل استطاع هذا الكتاب الذي يفارق مؤلفه السياسة أن يكون سياسيّا؟ هل نجازف
 ونقول نعم!
الشعر شجرة غريبة (كما يلمح أدونيس)، أم انه المشترك المعلن والمشاع في هذا الإنسان وذاك.. أظنه هذا وذاك، بل يمكنني ان أميل إلى القول بأن الشعر مشترك نعم، لكنه مشترك سريٌ.. مشترك تم استبعاده، مشترك مهجور ومنسي ومستلب.. ويبدو لي أن الانتصار للحياة لا يتم بمجرد حملها على الأكتاف، بل بفضحها وتعريتها وصدها. استطاع الكاتب أن يشير إلى هذا المشترك بحرفة حتى أعلنه من دون أن يسلب منه وقار الأسرار.. ولا أجد الشعر إلا هذا، أن تقول كأنك تصمت، أن تصمت كأنك تقول. 
يبقى انني أسمع سؤالك الآن –أيها القارئ: أين السياسة من كل هذا؟ 
لكن ما السياسة إلا كل هذا في معناها الجوهري. السياسة فن تشارك، فن أن تترك الباب موارباً دون مجال للانتهاك.. أن تتجلى التفاصيل في سياق الأطر الكبرى، وهذا ما فعله الشاعر، حين لون صورة قريته وأمعن في تفاصيلها تاركا لنا السؤال الأهم.. عن معنى حياتنا في المدن الكبرى وهي تبدو صورة بلا ملامح في إطار مزخرف، صورة تُلتقط لنا من دون استئذان لتكون وجهنا الأبدي صورة: قضبان.