د. جواد الزيدي
من زحامات المدن ومساكنها المتراصة على بعضها البعض والذاكرة المليئة بالشخوص في مدينة الثورة وشارع الرشيد ومقهى حسن عجمي ينطلق ستار كاووش بخطابه البصري القائم على فعل المحبة الخالص، بوصفه فعلا انسانيا نقيا يتسرب الى نواياه الصادقة وعلاقاته البريئة، ان فعل المحبة الساند لذلك الخطاب هو الذي قدم به الى مسارب الفن وكهوفه العميقة والخلق المبدع في تمثلات مشاهده المصورة، وان معطى الواقع الذي تجذر في ذاكرته هو ما ألقى بظلاله على تجربته الابداعية، فمشاهد الحارات الضيقة في قطاعات مدينته تحولت ضمن مشروعه الفني الى منظومة جمالية تعنى بالتعبير المكثف للصورة واللون وان اختزلها ببعض المفردات الأليفة، وتحولات الفعل الحداثي من داخل التجربة ذاتها دون المساس بأسس الاشتغال المرئي في لوحته المتفردة في الاسلوب والمعالجة الفنية في مشهدية الرسم العراقي ،فلم يخلع أثوابه التعبيرية عندما تقصد الآخرون التخلي عن سبلهم المختلفة نزوعا نحو الموضة والسائد في مساحات الصورة.. لقد كان مخلصا لمنهجه على الرغم من استناده على أرث أكاديمي وواقعي كبير، لكنه يعتقد أن ما يوصله الى العالمية أو الى الضوء هو هذا الاسلوب الذي اتبعه مطورا ذلك من داخل المدرسة أو المذهب نفسه ليصل الى ما أنجزه خلال مسيرته الفنية.
ستار كان يقف خلف اللون المعبر والموضوعات الأليفة وصوت أمه التي تقابل صورته الأولى بالفرح لاعتقادها بأن ما ينجزه من وجوه لشخصيات هو الرسم الحقيقي، لينظر من تلك الفتحات الضيقة للضوء الى سعة المدى الذي يحلم به، وبعد أن وضع أولى خطاه على الطريق الصحيح بمباركة أساتذته وزملائه في أكاديمية الفنون ونسجه لعلاقات مودة مع الشارع الثقافي وكل ما يتصل بذلك من آراء تدفع بالتجربة الى الأمام وتصحح من انحرافاتها وتؤكد صوابها بعيون الآخرين.. من هنا أدرك أن المسؤولية تكبر وتحيط به، وعليه أن يتخذ سبيلا متفردا في البحث العياني يختلف عن خطى الآخرين فاهتدى الى سرية الوجود ومركزه الأبدي الذي تدور كل الحكايا حوله ومعادلته الثنائية، ولم يهمل أحد أقطاب تلك المعادلة وحاول الجمع بينها حين رسم الرجل والمرأة كصورة واحدة تندمج في كل مفاصلها لترسيخ القناعات الشعبية السائدة بأن المرأة والرجل كليهما يخلق من الآخر وتتداخل الأدوار والمهام لاستمرارية النوع الانساني وانصهار ذواتهما لتتصير في لحظة ما ذاتا واحدة لا يمكن التفريق بينهما في تمثل حالة العشق السرمدي.
وتتحول لوحته الى فضاءات مفتوحة للتأويل ومن قبلها البوح تسعفها دائما ذاكرته المحملة بالأسماء والصور والحوادث ويوشحها على قماش اللوحة برصده المثير وامكانيته في تحويل الأسى الى سعادات خالصة على صعيد المنجز أو يتقصد لحظات الفرح وحدها لتكون بديلا عن الأسى... بما يصعد من أحلامه الواسعة في تمثيل الواقع المعيش أو رسم صورة للواقع الحلمي الذي يتمنى أن يكون عليه الواقع الفعلي وان أدرك عدم تحققه، انطلاقا من مبدأ التصاحبية التي تشير الى أن المفردات المرسومة هي موجودات الفنان نفسه وهذه صورته ليؤسس لعلاقة جدلية بين ذات الفنان واللوحة المرسومة ناتجة عن هذا الهوس الكبير بأصل النوع وتجليات وجوده الأول، وترسيخ لحظة الحب الأزلية التي تحقق الرخاء للانسانية، فشخوصه في حالة عناق مستمر ولا وجود لفضاءات بينية بينها.
ان الاصرار على فعل المحبة وفكرة الجمال هو اصرار على فعل التغيير وليس فهم الخارج فقط، ليصبح واقعه ذات يوم كما يحلم به، ويتضح ذلك من خلال اللون الشفيف والايماءة وحركة الشخوص المعبرة عن الانفعال الداخلي واحاطته كل الموجودات بسحب خضراء تتسرب الى الشخصيات ذاتها تنعكس على رؤية شخوصه بكل ما تحمله من دلالة وتتداخل مع اشارات أخرى ضمن منظومة بصرية موحدة تعكس البيئة وتشير الى الفكرة الأساسية (الحب) ليتسم نوعه الانساني بها وتصبح علامته الفارقة.
ان كاووش عندما يترك خلفه أكثر من ثلاثة عقود من الرسم المضموني وتأسيس خطابه الخاص لا أعتقد انه سيتراجع عن ذلك مهما كانت المغريات الأسلوبية وتبدلات المعطى الواقعي، فقد عمل على خلاف ذلك، اذ عمد الى تكريس مفرداته السومرية من خلال ملامح شخوصه للتأكيد على هويته المحلية وتحويلها الى مضامين عالمية في الرسم عندما تتلاقح الأساليب والرؤى بين جهات الأرض، تلك الملامح التي تمظهرت في غطاء رأس الرجل وشعر المرأة المتموج على الهامة انتصارا لسلالته الأولى ومكامن أصل المعنى الوجودي والفني لديه، وكيفية التعامل مع الموروث الشخصي الذي يحمله ويتم توظيفه على السطح التصويري، حتى وان تم استبدال الملمس الخشن أو الموحي بالخشونة في توصلاته الأخيرة واكتسابه صفات النعومة بفعل تقنيته الجديدة التي تقترب من المذهب التنقيطي تماهيا مع المعطى الجديد الذي يعيشه الفنان وأثره في تصوراته لما يجب أن يكون عليه العمل الفني في لحظته الراهنة.