تعالي الحضور ولعبة الغياب

ثقافة 2020/09/16
...

د. عمار ابراهيم الياسري
 
تعد منظومة الحضور والغياب واحدة من الفرضيات التي تشتغل عليها ستراتيجية التفكيك التي تجاوزت الانغلاق البنيوي نحو مفازات جديدة بوصفها معنية باستكشاف مضامين النصوص والبحث عن المعاني الغائبة والمضمرة بين طياتها، ويرى (جاك دريدا) أن الاختلاف بينهما هو الذي يسبب حضورهما وأن صفة الحضور لا تتحقق إلا من خلال علاقة الاختلاف بينهما التي في طريقها يتحقق المعنى، أي أن الاختلاف والتأجيل والعلاقة الاعتباطية بين الدال والمدلول هي من تحكم هذه المنظومة والتي تتجسد من خلال تغييب الدال للمدلول، حتى تصبح عملية توالد المعاني ذات صيرورة مستمرة بسبب الاختلاف المتواصل، مما يجعلها محكومة بحركة مستمرة غير ثابتة معتمدة على البناء والهدم من أجل بلوغ عتبة المعنى.
إن الأثر الدلالي على وفق الطروحات التفكيكية هو الإرجاء الذي يسهم في ما بعد بالإبانة الدلالية، وهذا الأثر قد يشهد محواً مؤقتاً، إلا أن ملامحه قد تتمظهر بين طيات النص الظاهرة والخفية، لذا يجب على القارئ الحاذق أن يتتبع خطى هذه الآثار المنفتحة على لا نهائية التأويل وهي تجسد مقولة لعبة الاختلاف.
ولو تابعنا كتاب فقه النشوة للشاعر عمار المسعودي الذي تضمن نصوصاً نثرية على وفق بنية تجريبية جديدة تشتغل على الكثافة الشعرية من جهة والديمومة التشكيلية للجملة من جهة أخرى سنجد تمثلات لعبة الحضور والغياب واضحة وجلية، فالأثر المرتبط بالإخفاء الوقتي يتعالق بشكل واضح مع السعي لتقويض الحكايات الكبرى التي تقوض ديمومة (النص – الحياة) من جهة و(الحياة – النص) من جهة أخرى، لذا عمد الشاعر إلى الإخفاء، فالتقارب النسقي بين الدال والمدلول قد يفضح شفرته الدلالية وبالنتيجة تصبح عملية التقويض بنية مفضوحة لن تحقق مآلات الشاعر.
ولو لاحظنا قصيدة (أقبل جهتي) في الصفحة الحادية والسبعين نلحظ مخيال الشاعر قد رسم لنا صورة مغايرة للرجل الصالح الذي يرمم حياتنا التي مكثت فيها الحروب أكثر مما ينبغي، فالرجل الصالح الذي يقول "توقفْ ولا تأخذْ بلحيتي ولا بمسبحتي ولا بانحناءة ظهري ولا بحكمتي، قالَ: خذْ حدائقي وابذرني" لم يكن على وفق الحضور الاجتماعي المـألوف للشخصية، إذ نلحظ أن الشاعر أعاد تشكيل الصياغات اللاهوتية من قداسة متيافيزيقية الى بنية وجودية، فلم تعد اللحية والمسبحة مهادات تحيل لمفهوم الخلاص؛ بل البذار المرتبط بالخصب والنماء والصيرورة هو الطريق الأمثل لخلاص الذات المستلبة، ثم يشهد الحضور الدلالي غياباً مائزاً، إلا أن ظلاله تبقى شبحية في جوانيات النص الشعري وهذا ما تجسد في مفردات مثل "معبد، وصايا، مصحف"، إن المفاهيم الفقهية الجديدة تطلبت من الشاعر أن يتقنع بشخصية الرجل الصالح من أجل أن يبث وصاياه التي تجذر وتؤصل مفاهيم مثل السعادة والمتعة والإخصاب التي تقوض أدبيات السبي والقتل والحرمان السائدة، ولكن هل ترك الشاعر دلالته مرجأة؟، الجواب بالتأكيد كلا، فلو تابعنا نصه (فقه النشوة) في الصفحة الحادية والثمانين نلحظ أن الوصايا الصوفية قد تجسدت بشكل كبير حينما يقول " النشوةُ.. أن ترى من تُحبُّه، وتقتربُ منه، وتسكن إليه، وتحاوله في خصامٍ، وفي رضًا، وتختار له، ألوانَ أثمارِهِ وأضواءَ نجومِهِ، ومنازلَ أقمارهِ"، فالوصايا التي أرُجئت سابقا تمظهرت دلاليا في فقه النشوة، فالحب والاقتراب والسكينة والرضا والإثمار والأقمار هي مرئيات مدينة فاضلة رسمها مخيال الشاعر للمنفيين والمعذبين بفعل قسوة السرديات الكبرى، والحضور الدلالي بعد الغياب هو سلطة كتابية قوضت شفاهية الفقه اللاهوتي.
ولم تخل المجموعة من ثنائيات تجسد القلق الوجودي الذي سببته السلطات القسرية، وقد تجسد حضورها في نصوص عديدة منها (محو) في الصفحة الثانية والأربعين، إذ يقول "تزرع شجرة فتفرح، تقلع شجرة فتفرح" و" لا تعاند يدي إنها آلة للغرس وحسبُ لا تصالح يدي؛ إنها آلة قلع وحسب" و" نصفُك نباتات مثمرة ونصفُك أدغالٌ ثم ماذا؟"، إن هذه الثنائيات خلخلت الحضور الدلالي للمعنى، لذا حاول الشاعر أن يترك أثرها ممتداً على مساحة المجموعة، كما نلحظ ذلك في نصوص أخرى مثل ( الضمائر التي لا تعني أحداً) و (جني) و(أنت في النسيان) وغيرها، وقد تجسد الأثر في مفردات أخرى جاءت في نصوص بعدية عديدة؛ ولكن نلحظ إن لعبة الغياب قد تلاشت مع نصه (ما أخبرتني به الطرقات) في الصفحة الثانية والستين بعد المائة، فقد هشم كل تمظهرات القلق والاستلاب التي وقع تحت حيفها الانسان
 المعاصر.