اسماعيل ابراهيم عبد
بلند الحيدري في عمله “ثرثرة في الشارع الطويل” ضمن الأعمال الكاملة - ص598. ينادي بصوتين، حوار لفلسفة، وفلسفة نداء، عبر صوت مجتمعي، وكل منها يتوافق في مصاغة لشبيهة دراما شعرية.. ولأجل التوفيق بين جزئيات هذه المنظومة سنأخذ نصوصاً منتقاة لهذا
الغرض.
(أو مؤلم ان تلبس الحذاء كل يوم...؟/- أجل أكره ان انزعه / أكره ان ألبسه/ اكرهه، لولاه ما كانت لنا/ غير مسافات الرؤى في النوم/ لولاه، لم نسأل/ لم نرحل/ ولم نكن لغير أمسنا البخيل).
النداء هنا لايصاغ بأحرف النداء ولا بأدوات البناء اللغوي، بل بدلالات الدعوة الى تبني موقف الهم التحذيري
فلسفياً.. ولان الشاعر يشطر ذاته دوما ليخلق ندّاً يعارض نداءه (دعوته) فهو يحتاط لهذا بمراوغة بعيدة قليلاً عن الفلسفة، تدنيه من جدوى سير، سريان الشعر. بدءاً من اسفل سافل للمشي، الحذاء.. ولم يُعِر لهذا المُغَلِّف لحركة القدم أهمية (ما) عدا كونه مكمماً للإرادة، ماحقاً للحرية البدنية، مخادعاً للحركة البشرية، يتآمر على عقلية الرحيل بالجذب
الموهم.
فكرة الرحيل
وعلى حد قناعة الشاعر، فالشارع لا يريد الارتحال لولا وجود الحذاء، والشاعر، يستثير النِدَّ لعله يعيده الى الاستقرار، ويطرد عنه فكرة الرحيل، يتخفى بصوته خلف فكرة التكرار كفكرة قناع لنداء درامي فلسفي، والشاعر يحيك دراما النداء لندَهِ (القناع) بتشريفه لظرف المخادعة بطرفين (الجو النفسي، والايهام الآني) فما يكون من ندّهِ المتفلسف الايهامي مضطرب اللحظة، الاّ أنْ يقنع ويؤيد الدعوة بالانكفاء الى (مغالاة النكوص) فالنوم مدعاة لوجود مسافات من الرؤى دون الاضطرار الى السؤال والرحيل، إنّما المكوث الأزلي بالأمس البخيل كنداء نِدَي ودعوة (لغدِ وعد) .ان الغد سيكون مجهولاً يبحث عن مكتشفين راحلين لعلهم لايكرهون حذاء التجوال ، وإذاً ما يرى من مظهر وفلسفة وجدوى نداء السير هورؤى السؤال الازلي، ما جدوى (السير بغير
هدى).
وحين يصير السؤال جماعياً فسيغرق في جدل زمان مقاس ومكان معين وظرف مقيد بالزمان والمكان والكيفية والموضوع وقضية وجود بشري ما تتأطر بمحيط مشخص بالكره والهزيمة :(* تكرهه..؟!/- أجل ... أجل، أبصقتها بلا وجل/ لولاه ما كان لنا في الشارع الطويل/ الرعب/ والضياع/ والمدينة القتيل/ كيف اذن شريته...؟!/ - شريته... يا لك من مجنون/ من يشتري حذاءه اللعنة، من؟! من يشتري استغاثة التاريخ والزمن..؟!/ من يشتري رائحة العفن.؟!/ كيف اذن...؟/ - الم تبح بذلك الالهة الجديدة الحنون؟/...الالهة جديدة حنون/ كما يسميها المذيعون).
استغاثة التاريخ
انه في نداءاته الصوتية هذه احتاز على رؤى بشرية (ضدية)، وضع لها حواراً لشخصين، صاعده ليكون ضمن شارع، كشخص ثالث، ثم جمع اليهم الرعب في الضياع كشخص رابع، ثم المدينة القتيل كشخص خامس، وأحاط هذا الظرف الجمعي باستغاثة التاريخ ورائحة العفن، والآلهة الجديدة الحنون، وأقوال
المذيعين. هذا النسج التوفيقي المتضاد يحيل الى رؤى فلسفية يعلنها المذيعون، أهم ما فيها انها نداءات ارتدادية تخيط الظرف بألبسة الشكوى والاستدراك، بصيغة جدل فلسفي ساخر بلغة شعرية خاصة يقرر عبرها ـ
لاحقاً ـ
بأننا بشر لم نحسن الاصغاء الى صدى وعمق وتحدي الاستغاثة (الصرخة ـ الضمير)، فيخز ضميرنا
بالفضيحة :
(لشد ما يكذبون/ أما سمعت صوتها الهادر في المذياع/ لا عذر اليوم للأتباع/ لا عذر للأشياع/ لاعذر للملوك والرعاع/ لاعذر بعد اليوم/ فكلكم/ أصغر من فيكم/ اكبر من فيكم/ القوم، كل القوم/ أمسكته حذاءه الملعون/ فقرننا../ الغى مسافات الرؤى في النوم/ كل المسافات/ لا شيء غير الموت للحفاة / ولن تروا في عتمة المرآة/ الآتي وجه عالم مقنع).
الاستغاثة هذه تشي بهتاف أراده الشاعر فلسفة اجتماعية واقعية، قيّد بها فضاءات الايماء الشعري ذتا التراسيم الاضمارية، ولولا وعيه الحاد للوجود (النصي والبشري) لما استطاع انقاذ النص من لغة المقالة، إذ رُبِط برؤى الهم البشري المحمول على أكتاف ومسؤولية الجميع، فلا عذر لأحد في ان يظل تحت مطحنة الزمن، ولن يترك لأحد منافذ تسرب عن المسؤولية، بل ان الصراخ العالي (الصوت الجمعي، والصوت النقيض الدلالي كصدى) هو حلّ موضعيّ مؤقت.