ياسين خليل وجهوده المبكرَة في اللسانيات
ثقافة
2020/09/18
+A
-A
جواد علي كسار
سنة 1962م أطلق د. خليل مشروع رؤية في التحليل اللغوي الذي اشتهر في ما بعد بعنوان فلسفة اللغة، بوضع أسس جديدة مقترحة لفهم المقوّمات الأساسية للغة، بشقيها الرئيسين اللسانيات والدلالة أو العلامات.
الهدف من وراء هذه النظرية،أنها: “مفيدة للدراسات اللغوية والمنطقية والفلسفية، لأنها تعالج التركيب العام للغة، والمعاني المقترنة بالعبارات اللغوية، كما أنها تهتمّ بدراسة علاقة الفرد المتكلم بالعبارات الصادرة
عنه».
علم اللغة الرياضي
لم يشأ ياسين خليل أن يوحي لقارئه بأن قضايا اللغة من قبله كانت فراغاً مجوفاً، وأنه قد شرع من الصفر، ومن ثمّ لم ينكر جهود من سبقه في تطبيق المنطق الرياضي على اللغات، للكشف عن نظامها التركيبي والدلالي وإنشاء علم اللغة الرياضي، ما دعاه تحديداً إلى استحضار جهود اللغوي الأميركي ليونارد بلومفيلد (1887 - 1949م)، ثمّ وعلى نحو أخص منجز العالم اللساني الدانماركي لويس هلمسليف (1899 - 1965م) الذي أكّد أن كلّ لغة تتكوّن من مظهر صوتي وآخر دِلالي، وأن المستوى الأول تجسّده التعابير والأصوات وهي وسيلة إيصال الأفكار، في حين يعكس المستوى الثاني المحتوى ويضمّ الأفكار الموجودة في اللغة، ما دفعه للاعتقاد بأن أغلب اللغويين خلطوا لمدة طويلة بين المظهرين؛ أي بين الأفكار أو المادة الدلالية، وبين الكلمات التي تشير للمعاني وتعبّر عن الأفكار.
على هذه الخلفية في جهود اللغويين التي اشتهرت باللسانيات الرياضية، تحرّكت طموحات ياسين خليل لاكتشاف المبادئ الأولية لكلّ لغة عبر نظريته: “أما دور نظريتنا العامة في هذا المجال، فإنه يقوم بخدمة البحوث المنطقية واللغوية والفلسفية معاً، لأن هذه النظرية تضع المبادئ الأولية لكلّ لغة، وتكشف لنا عن تركيب اللغات ودلالات العبارات اللغوية في وضعيات لغوية
واجتماعية مختلفة”.
تحقيقاً لهذا الطموح وضع مخطّطاً عاماً لدراسة اللغة على مستويات ثلاثة، هي:
1 - التركيب اللغوي أو المنطقي للغة.
2 - المعاني والدلالات التي تقترن بالتعبير اللغوي، وتشير إليها العبارات اللغوية.
3 - علاقة الفرد المتكلم بالعبارات اللغوية.
ثمّ عاد ليجمع هذه المستويات الثلاثة في نطاق واحد، هو علم العلامات (السيميوطيقيا) انطلاقاً من أن هذا العلم هو تعبير عن قاعدة عامة مشتركة للدراسات اللغوية، وهو “نظرية عامة تضمّ البحوث اللغوية التي تعالج التركيب اللغوي، والمعنى والدلالة، وصلة الفرد المتكلم
باللغة”.
اللغة العلوية
الغاية من البحث صياغة أو اكتشاف “القاعدة الأساسية للغة التي تشمل القوانين الرئيسة المكوّنة لكلّ لغة، والتي بغيرها لا يمكن لأيّ لغة أن تعيش”. وهذا طموح لبلوغ ما يسميه “اللغة العلوية” أو “نظرية اللغة العامة” التي تتمثل بمجموعة مبادئ وأطر وقواعد عامة لدراسة اللغات، وتحليلها على نحو منهجي علمي منظّم.
وحيث تكون نظرية اللغة العامة أو اللغة العلوية بهذه المنزلة من الأهمية، فإن البحث فيها يأتي “بنتائج مثمرة تهمّ علم اللغة والمنطق والفلسفة”.
الأنظمة الثلاثة
بهذا المعنى نجد أن حركة اللغة عند ياسين خليل تعمل من خلال أنظمة ثلاثة، هي:
1 - التركيب اللغوي.
2 - المعنى والدلالة.
3 - الفرد المتكلم وصلته باللغة.
تذهب النظرية إلى تحديد موقفها من هذه الأركان أو الأنظمة الثلاثة، لتجد أن التركيب اللغوي هو تعبير عن النظام الصوري أو الشكلي الذي يهتمّ بدراسة العناصر والعلاقات المكوّنة للغة، انطلاقاً من مفهوم مبسط للغة ساد في جملة من اتجاهات الدراسات اللغوية، يعرّفها بأنها نظام من الأصوات ينطقه الفرد بواسطة أعضائه الصوتية، لكي ينقل للآخرين أفكاره وعواطفه وأحاسيسه ويعبّر عن احتياجاته.
وهذه هي: “دراسة للوحدات اللغوية بعلاقاتها مع وحدات لغوية أخرى، من غير أن نعتبر دلالاتها”.
أما المعنى والدلالة فهو عبارة عن “دراسة اللغة من وجهة نظر معانيها”.
بالانتقال إلى النظام الثالث في حركة اللغة متمثلاً بصلة الفرد المتكلم باللغة، نكون أمام وظيفة بحثية جديدة، وهي نظام يتألف من مبادئ تهتمّ بدراسة علاقة الفرد المتكلم باللغة، من حيث الأصوات ودلالاتها معاً، انطلاقاً من وضعيات لغوية واجتماعية وثقافية وبيئية مختلفة.
بهذا المعنى يهتم المستوى الثالث من البحث في القضية اللغوية، بالتحليل الفيزيولوجي لما يحدث من فعاليات في أعضاء الصوت والجهاز العصبي عند التكلم، كما يبحث التحليل النفسي لطبيعة العلاقات بين سلوك التكلم والسلوك الآخر، وكذلك يهتمّ بدراسة الحالات الاجتماعية للأفراد عند استعمالهم اللغة، واختلاف العادات الكلامية في المجتمعات المختلفة.
هكذا تكون “البراجماطيقية” هي “علم الأقوال والكلام في علاقته بالفرد، وبالمظاهر الاجتماعية والنفسية”. أي علاقة المتكلم بذاته، ثمّ بما يحيط به من عوامل التنوّع الاجتماعي والثقافي والبيئي، وحتى الاقتصادي والسياسي، أو لنقل بتعبير خلدوني جامع؛ علاقته بالعمران والطور العمراني من حوله.
في ضوء ذلك كله، نهض طموح هذه المحاولة التنظيرية لاكتشاف وبناء وصياغة أنظمة لهذه الفروع الثلاثة، نزولاً عند هدف الباحث المنشود بوضع اليد على نظرية عامة للغات أو “منطق اللغة” كما أطلق على ذلك نصاً، من خلال المزج بين المنطق واللغة وتوظيف الرياضيات، من خلال الأنموذج الذي شيّد عليه عمله هذا، في التحليل اللغوي أو في فلسفة
اللغة.
لكن كيف يتمّ ذلك؟ وهل بالإمكان إخضاع اللغة إلى منهج التحليل المنطقي وتركيبياته الدقيقة وبناءاته الصارمة؟
اللغة والكلام
ينطلق ياسين خليل في تشييد أنموذجه النظري من التمييز بين اللغة كنظام واللغة ككلام أو صيرورة كلامية، تبعاً لعالم اللغة الدانماركي صاحب المدرسة النسقية لويس هلمسليف، لينتهي إلى أن لكلٍ صيرورة نظاما، ما يجعل تحليل اللغة ممكناً منطقياً بتحليل تلك الصيرورة، واكتشاف عناصرها وصياغة آليات عملها في اللغة. ثمّ يتحوّل بعد ذلك إلى بحث تحليلي تفصيلي، للمستويات الثلاثة لدراسة اللغة والعلوم المختصة بها، والمنهجيات التابعة لها لاسيّما المنهجية المنطقية، وهو يفعل ذلك كله بلغة علمية دقيقة واضحة خالية رغم عمقها من اللبس والإعضال والغموض، مما نراه بادياً في عدد غير قليل من دراسات البحث اللغوي، بالأخصّ ما يرتبط بالجانب التحليلي أو بفلسفة اللغة، مضافاً إلى خاصية التوثيق المصدري الرصين الذي اتسمت به الدراسة في عرض رؤاها، كما في الإشارة إلى خلفيات الأفكار وتأسيساتها في علم اللغة العام.
المتكلم واللغة
بالانتقال إلى مجال البراجماطيقيا اللغوية كمثال (علاقة المتكلم باللغة) يركز الباحث على علاقة الفرد المتكلم بالعبارات اللغوية التي يستعملها، ضمن مجموعة معينة من الناس، ومن ثمّ يهتمّ هذا الحقل تبعاً لذلك بملاحظة المظاهر الاجتماعية والنفسية والثقافية للمتكلمين عند استعمالهم العبارات اللغوية، مضافاً إلى العوامل البيولوجية، لتكون الحصيلة في أحد أبرز نتائج هذا المنحى، أن العبارات هذه أو كلام المتكلّم ما هو إلا نتاج لنسق حضاري معيّن وللأوضاع التي تأثر بها المتكلمون، ما يذكرنا مجدّداً بابن خلدون (ت: 808هـ) ونظريته في علاقة اللغة بأطوار الإنسان العمرانية من البداوة إلى الحضارة.
تأتي الحصيلة الأخيرة مهمّة جداً وربما خطيرة، لأن من يتأثر بالأوضاع الاجتماعية والنفسية والثقافية والسياسية والاقتصادية، إضافة إلى العوامل البيولوجية هو المتكلم، ثمّ تنعكس آثار ذلك على المعاني والأشياء والمفاهيم المرتبطة بالعبارات، وتالياً يدخل الزمن كعامل مؤثر في معاني اللغة ومدلولاتها، ليكون من بعض نتائج ذلك: “إن الشخص الموجود في زمنٍ معين وحالة معينة، قد يستعمل العبارات نفسها التي تكلّم بها، في زمنٍ آخر وحالةٍ أخرى، ولكن بمعان
مختلفة”.
والسؤال الآن: ألا تسترعي هذه المعاني والملاحظات انتباه رادة العلم الديني، وألا تثير في الذهن أسئلة واستفهامات وربما آفاق معينة بهذا الاتجاه أو ذاك؛ بالرفض أو
التأييد؟!