[I]
لقد اِنتصرت العدمية، قَبلَ أن تنتصر التفاهة. وإذا كانت العدمية ضرباً من ضروب الوجود، والفكر، والتفلسف، فإنَّ التفاهة ضرب من ضروب الحكم المعياري، في كلِّ مرة. تقوم العدمية على مفاهيم، وممارسات تندرج ضمن التوقف عن فعل أي شيء يتعلَّق بالخلق؛ أي خلق المعنى على المعنى. ومن جهةٍ أخرى هي تتضمَّنُ ضرباً من ضروب الفعل الذي يقوم على غياب النتيجة، وحضور الهَدم من أجل الهدم، أي تفكيك كل شيء بواسطة (المجهول). في المجهول، وبه، وله، وانطلاقاً من كون انتمائه إلى جذر ماهيَّة الانسان، تُحدَّد العدمية، وتنتقل إلى أن تُصبِحَ الحدَّ النهائي للوجود، والانوجاد المجتمعيّ للإنسان.
[II]
ولكن لا معنى للعدمية إذا لم تأتِ إلى مستوى الوجود المجتمعيّ، بوصفها ظاهرةً، أو واقعةً مجتمعيَّة. ما هي هذه الظاهرة، وعلى ماذا تقوم؟ وبأية معانٍ تمارس وجودها المجتمعيّ؟ ثَمَّةَ ظاهرة مجتمعيَّة تتسم بالخطورة، في طورها إلى التبلور يمكنها أن تحطِّمَ المجتمع تحطيمًا، بواسطة تفتيت الفعل المجتمعيّ فيه. إنَّها الاِهتمام المفرط من قِبَلِ الشباب بالفلسفة العدمية، وبخاصة الاهتمام المفرط بالفيلسوفين آرثور شوبنهاور، وفردريش نيتشه، اللذين يمثلان ذروة اِتجاه الاِنحطاط العقلي في الفلسفة. وعلى الرغم من أهميتهما، في صيرورة الفلسفة، إلاَّ إنَّ اِختزال الفلسفة بهما من قِبَلِ الشباب، يرتبط بأسباب مجتمعيَّة، تنذر بكارثة على صعيد الفرد، والمجتمع.
[III]
يرتبط السبب الأول بالعدمية على صعيد الفكر؛ تأتي من العدمية على صعيد العلاقة بين الفكر والواقع. حينما يتوقف الواقع عن تقبُّل، أي فتح المجال أمام، الشباب للإبداع، والعمل، والإنتاج، يُصبح الشاب ضحية عالَمٍ متخيَّلٍ، لا يتوقف عن توليد عوالم داخله.
وهكذا، يهجر الواقع إلى العوالم اللا- متناهية في الفكر. ولا يستيقظ إلاَّ بعد فوات الأوان. أي بعد أن يكون المجال المجتمعيّ قد انغلق أمام إمكانات وجوده الذاتيَّة –
المجتمعيَّة.
[IV]
كما يرتبط السبب الثَّاني بالجرح النرجسي للشاب في الفترة الأولى من حماسته الشبابية، وكبت ما يشعر به من آلام، وأحزان، وتحطُّم...وإلخ. فبدلاً من المواجهة، في الواقع، يجد في الفلسفة العدمية خلاصَه، كونها تخلق له عالَمًا يقوم على مفهومي البطولة، والألوهية. وبذلك، ينتقل كُلِّيَّاً إلى عالَم من الأوهام يجعل من ذاته أسطورةً وبطلاً. وضمن هذا المعنى يغيب المعنى عنه.
[V]
كما يتعالق السبب الثَّالث بتحديد الفهم، والضروب المختلفة من ممارسته، بواسطة الحُكم- والحاكمة. ومن جهة أن الحكم أسهل بكثير من البحث الطويل، والتأمل والتمعن وبناء التَّساؤل العميق، فإنَّ العقل الشاب يجد فيه (في الحُكم المعياري) ذاتَهُ، العقل الذي يقوم وجوده الكُلِّيّ على السرعة- والاختصار؛ ومن حيثُ إنَّ الحكمَ يجعلُ من الفهم أحاديَّ البُعدِ- والاِتجاه، تُصبِح الفلسفة العدمية، هي الأكثر سهولة في التعلم، والقراءة، والفهم، وبالتالي الترويج لها. هكذا فإنَّ الفلسفة العدمية، مع اجتماع هذه الأسباب، تُصبِح بسهولة الفلسفة الأسهل للعقول العادية.
[VI]
تلتقي الفلسفة العدمية بالوجود المجتمعيّ كونها الأكثر وجوداً في المجتمعات الأكثر بُعداً عن الإنسانيَّة، والحرية، والمعنى الأخلاقي. وتلك، خلافاً لما يُتصوَّر، لا تتعلَّق بمسألة الذَّات، بل بالخلق: خلق المعنى.