لا أتذكر متى وأين، رأيت هذه الكلمات التي ما زال صاحبها الحكيم مجهول الشخصية والعنوان. كان يقول: «إذا شعرت أحياناً بأنك لست جزءاً من هذا العالم ولا تنتمي إليه، فهذا لأنك ربما ولدت لتصنع واحداً جديداً».
في الأزمات وفي أحيان كثيرة من الضعف الجسدي والعاطفي، يتنبه بعض الأشخاص على أنهم ليسوا في المكان الذي أرادوا أن يكونوا فيه وإن رحلتهم الطويلة في الحياة، هي مجرد متاهة ودوران غير محسوب في حلقة مفرغة.
هذه هي مشكلتنا تحديداً؛ نحن أسرى أقفاص القواعد والمعايير والروتين، بينما يكمن العالم الحقيقي خلف حدودها، عالم واسع من الإبداع بدون قيود أو قواعد، ليس علينا سوى أن نمدّ أيدينا لنقطف ثماره لكنها بالطبع ليست قطوفاً دانية، فهناك الحلم والدافع والجهد المتواصل وأيضاً الكثير من العمل؛ العمل الذي نستطيع به مواصلة عيشنا ومن خلاله نحقق استمرارية أيامنا، ثم ذلك النوع من النشاط العقلي الذي نسعى إليه من أجل إرضاء طموح اعتباري يميزنا عن الآخرين ويرضي غرورنا، أما التداخل بين الاثنين فهو أمر محتم، طالما لا نملك السيطرة على تسيير أمورنا الحياتية بالاستغناء عن الأول.
هذه الإشكالية بالذات هي التي تجعل من حياة معظم الفنانين والأدباء والعلماء وأصحاب المشاريع الطموحة وكل من يعمل في مجال الإبداع الذي يحتاج التفرغ التام، حياة شاقة، تلك التي يتحتم فيها أن يتوافر الاكتفاء الذاتي من المال وأوقات الفراغ.. فضلاً عن ذلك الكيفية التي يتم من خلالها خلق الظروف المواتية لتحقيق ذلك، والأهم القوة النفسية والاستعداد للمواصلة.
يتخلى الكثير من هؤلاء عن حياتهم، التي ترتسم في مخيلتهم، لصالح حياة واقعية روتينية يصرفون في دقائقها جل طاقاتهم النفسية، لإيمانهم بأنهم لا يمتلكون القوة والإمكانات لتحقيق التوازن بين الاثنين؛ العمل الوظيفي، الأسرة، الواجبات الاجتماعية وغيرها الكثير من المسؤوليات اليومية التي تخنق الوقت وتشتت الأفكار وتضيّق الخناق على الإبداع، وهم في الغالب يحصرون مفاهيمهم على وفق أفكار مسبّقة ترسم لهم خطواتهم وتخنق خياراتهم بالممكن واللاممكن بالمسموح وغير المسموح، في الوقت الذي يمكن أن تفتح فيه نوافذ حياتنا على الكثير من الاحتمالات والخيارات والممكنات.
يقول أليكسي أورلوف؛ رجل أعمال بريطاني ومسوّق عالمي: «نحن نستمع كثيراً للآخرين وننسى سماع صوتنا الداخلي وحدسنا، لماذا نعيش وفق قواعد الآخرين ولا نعثر على بدائلنا الخاصة؟ كيف يمكن أن نقرر زراعة المساحات الواسعة في حياتنا قبل أن نعرف إذا ما كان المحصول الذي نزرعه كافيا لإسعادنا؟ ثم لماذا محصول واحد.. ولماذا في موسم معين وبقدر محدد مسبقاً؟ في الواقع، نحن لا نمنح أنفسنا الفرصة والمساحة الذاتية الكافية، نقضي أيامنا نتنقل من حدث إلى آخر من دون توقف آملين من الحياة أن تقوم بواجبها نحونا على أمل أن يصبح كل شيء على ما يرام في نهاية المطاف.. لكن هذا الأمر لا يمكن أن يستمر، إذ يتوجب علينا القيام بالأشياء بطريقتنا الخاصة، ليس بالضرورة هي الطريقة التي تشبه ما يقوم به الآخرون، يتوجب علينا في مرحلة ما أن نتوقف وننظر حولنا، إذ أن لحظة التوقف هذه مهمة جداً لابتكار بداية أخرى».
ويرى أورلوف بأن الإيمان والاعتقاد بالأشياء مهم أيضاً لكن الإيمان الأعمى أمر سيئ، وبين هذا وذاك يجب علينا خلق توازن معين يضمن لنا الخروج إلى الجهة المقابلة من القواعد والروتين بلا خسائر، فهناك دائماً بعض اللحظات الحاسمة في حياة المرء في مجملها قرارات وأفعال تتجاوز اليومي والروتيني، وهي اللحظات التي ترسم الشكل الحقيقي للحياة وما يجب أن تكون عليه، معززة بالعواطف والقناعات الشخصية.
« ولكن.. لتحقيق أقصى استفادة من الأشياء ينبغي لنا أحياناً الانفصال عن الضوضاء الخارجية والنشاط المشترك للحياة اليومية.. (لقد فات الأوان)، مصطلح احتقره حقاً؛ إنها استقالة الأمل وتنازل الاحتمال، مع أن كل ما يجب معرفته غير معروف بعد ، وهذه هي المتعة والتحدي الأبدي لوجودنا. برأيي لم يفت الأوان يوماً، وفي نهاية الأمر يجب علينا وحدنا أن نمتلك اللوحة ونتحكم في مسار الفرشاة».
بعض الناس يستغرقون سنوات طويلة لبلوغ هذه اللحظة، بعضهم يمتلكون ما يكفي من الحظ الجيد والفرص المتاحة للحصول على ما يبتغون في وقت أقصر، وهناك تلك الفئة التي ما زالت تقضي أيامها – من دون أن تدرك ذلك- في دوران مستمر وغير مريح في حلقة مفرغة اسمها حياة الآخرين.