منذ ذلك الصباح الحلّي البهيج الذي قادني فيه بحنوٍ أبوي الى ينابيع الجمال ودلّني على مواطن الوضوح والمعرفة، والى يومنا المدلهم هذا، وأنا أراه بكامل حيويته وابتسامته التي صارت سمة ملازمة له، رغم انه بلغ الآن الخامسة والثمانين من عمره المديد الحافل بالإبداع محبةً وشعراً وقصةً وارتقى باصداراته الى ضفة العشرين كتاباً أولها: واتركوني لجنوني، واخرها ليس: الصمت لا يليق بالعصافير، هلال الشيخ علي أزعم بثقة أنه من علمني الكثير في الحياة بما منحني من طاقة الأمل والروح الوثابة، ولذا فهو من معالم ثقافة بابل وأعلامها المثابرين على العطاء وزخ نثيث المعرفة الحقيقية في مسامعنا الفتية، ومن الواجب الاحتفاء بمنجزه الغزير عبر التعريف بجمالياته والكشف عن موارد توهجاته رغم ظروفه الصحية وسنوات الشيخوخة، لكن اللافت ان هلال الشيخ علي بما ينتج من نصوص تجده لا يفارق تجارب الشباب وأمنياته، فهو عاشق مدنف لا يكلّ عن ضخ قصائد الغزل لشريكته التي يشير إليها بـ (الجورية) فلنقرأ ((همس)) ص12
مازال .. يهمس لجوريته / وهي في عنفوان تألقها... البهي / أحياناً / تحمرُّ وجنتاها../ يفيض عطرها بسمة / تملأ المكان ..
ولأن الزمن لعب في حيويته فقد ظل هامساً ولكن من غير فعل :
مازال يهمسُ / لجوريته / يشمُّ ما بقي من عطرها / يعيد تألقه / ثم يحفظه / في الشغاف ... وهكذا كشف لنا الشاعر الشيخ مكامن فحولته ومتاعب حياته، ولكنه من باب الوفاء والعرفان بالجميل احتفظ بأشياء جوريته في الشغاف وذلك أضعف الإيمان كما نوى، والشاعر هلال الشيخ علي يكاد يكرّس معظم نصوص ((الصمت لايليق بالعصافير)) الى ((لعيون الحبيبة زوجتي التي ساعدتني على الحياة)) وحتى في الاهداء الموجز هذا ما يدلل على ان (الجورية) كانت معه (على) الحياة وليست (في) الحياة، وهنا تتضح صورة اسناد (الجورية) لشريكها في معركته غير المتكافئة، فكانت عدته في الصبر وتحمل الصعاب في إغارته (على) الحياة التي اذاقته مرارتها وجحود العابرين في دروبها .... ورغم ما في دنيا الشاعر من مشاغل وشواغل وانكسارات وانتصارات فإن (الجورية) حبيبته ورفيقته سنوات عمره الطويل تظل أيقونته وسر حيويته ومحفز إبداعه :
مازالت تراودني / تريني فتنتها الباذخة / نعومتها المثيرة / دفئها الحميم / حتى اذا هممت بها وربما همت.
يفصح الشاعر عن مكامن ضعفه البشري عبر هاتين الجملتين الفاضحتين حتى اذا هممت بها و ربما همت ... وهذه الربما قابلة للقراءة من اكثر من وجه، لكن ال اختفاء الكلمة / الفعل .. فللعمر احكامه أيها الشيخ الشاب ... ولكن ما كل يتمنى الشاعر يناله وتلك مشيئة الحياة وقوانينها، وها هو يواصل تكرار تعلقه بجوريته : تضيء / كنجمة الحقول/ حدائقها ..... لجوريتي / طعم الحب .. ص79
ويظل الشاعر المبدع هلال الشيخ علي مفتوناً بجوريته، ملتصقاً بنبل خصالها، متعلقاً بشميم عطرها ولِمَ لا وهي التي رافقته منذ الكبوات الاولى حتى سطوع أقمارها الاوفياء، ولذا فالشاعر لا يكف عن توكيد محبته لها، لانها هي كل شيء في حياته المتعددة الصفحات: سأجلس / عند بهائها / أهمس لها كلماتي / المحبوسة / من ثمانين عشقاً / نخلتي ...ص96 .. و ... كلا / انك لم تر فاتنتي / تلك الخداها / حنطيان / كخبز التنور ... ص97
وهكذا يظل هلال الشيخ علي وفياً لمنابعه التي ارتشفها من بساتين قريته الوادعة (محاويل الامام) وعاش في ظلال تجاربها الانسانية وابدع الكثير عند سواقيها الخضلة... شكراً أيها الشاعر الذي جدد فينا روح الأمل وازاح عن الصدور بعض ما جثم عليها من غمامات
وظنون.