الدولة الضامنة لحقوق الأفراد والجماعات

آراء 2020/09/20
...

 محمد عدنان محمود *
 
يرى فقيه القانون الفرنسي (Leon Duguit) أن بناء الدولة والقانون تكون على أساس العلاقة بين الحكام والمحكومين، وهو ينطلق من هذه الرؤية من الفهم الواقعي لوجود الدولة، فالدولة لديه مرتبطة بالعلاقات الاجتماعية لذلك يعرفها بالقول: «حيث نقر في مجموعة معينة وجود قوة إرغام نستطيع أن نقول ويجب أن نقول بوجود دولة، ففي كل مجتمع بشري كبيراً كان أم صغيراً، إذ نرى افراداً أو مجموعة افراد يقبضون على قوة ارغام يفرضونها على الآخرين، ويجب ان نقول بوجود سلطة سياسية (اي) دولة».
اخترنا هذا التعريف انطلاقاً لموضوع النقاش لأن الفكرة الاساس في بنية الدولة ووجودها تتمثل في كونها الضمانة لحماية المجتمع ولحقوق أفراده، فالدولة هي حصيلة علاقات اجتماعية وهي الضابطة الحقيقية، بوصفها سلطة سياسية للمجتمع ووجوده، إذ إنَّ الحديث والدفاع عن الدولة كحقيقة قائمة، لا بدّ من أنْ يترسخ في الفكر والممارسة المجتمعية والسياسية، وقبل أنْ نتحدث عن هذه الحقيقة تبرز أمامنا عدة أسئلة، لماذا يكون الفرد عضواً في دولته ومدافعاً عنها وملتزماً بمتطلباتها ومنفذاً لواجباته تجاهه؟ في مقابل تساؤل آخر لماذا يلجأ الفرد نحو جماعة او عشيرة او حزب معين ويرى فيهم الضامن لحقوقه ومكتسباته والمدافع الحقيقي عن وجوده وعن حياته، ويتناسى وجود الدولة؟ بطبيعة الحال لكل من هذين الخيارين اسباب وظروف موضوعية، من بديهيات القول ووفق المنطق والموضوعية، ان المواطن له الحق في الانتساب الى اية جماعة اجتماعية كانت او سياسية، وهو بالتأكيد جزء من بيئة جغرافية ذات واقع اجتماعي يأخذ صيغة العشيرة او القومية او المذهب، ولا يمكن ولا يجوز تحت اي سبب كان الاعتراض او مواجهة انتماء مواطن لجماعة معينة، ما دام هذا الانتماء لا يتعارض مع القانون ولا ينتهك حقوق الاخرين، كما أن نجاح وجود الجماعات والانتماءات والحفاظ على حقوقها ومكتسباتها المشروعة مرهون بالدرجة الاساس بنجاح وقوة الدولة، التي هي بالمحصلة ضامنة لحقوق هذه الجهات كافة، والا فإن غياب الدولة وتمسك كل جهة باحقيتها في ادارة شؤونها وشؤون رعاياها لن يحقق استقرار المجتمع ولا يوفر الآلية الصحيحة والمنطقية لعمل المؤسسات. 
وهنا يتبادر سؤال مهم ماذا لو غابت الدولة ومؤسساتها عن اداء الدور والواجب المنوط بها، كيف ستصبح الحياة وكيف يمكن أن تُضمن الحقوق ولا يتم التجاوز على القانون، بل من سيمتلك سلطة القانون وسلطة الاداء السياسي ومن سيصون الحريات ويحقق العدالة بين المواطنين؟، على غرار الفيلم الاميركي «التطهيرThe purge» والذي تحدث عن مجموعة سياسية اميركية تعدُّ نفسها وريثة الآباء المؤسسين تصوت بالموافقة على تقليد سنوي يسمى التطهير، وهو تقليد يستمر لمدة 12 ساعة. خلال هذه الساعات تختفي الدولة كلياً بكل اجهزتها الامنية والصحية والقضائية والمدنية، وتصبح الساحة مكشوفة امام الجميع ليفعلوا ما يشاؤون من قتل وتخريب وسرقة وكل اشكال الجريمة التي تهدد الوجود البشري، فضلاً عن رفاهية الجميع. الفكرة الاساس التي نناقشها هنا ما هو معنى غياب الدولة لمدة ساعات ويصبح المجتمع مكشوفاً ومهدداً من الداخل والخارج. 
وحين نتحدث عن العراق هو لا يختلف ولن يكون مغايراً عن بلدان العالم يحتاج الى الدولة التي تعزز كيانه وتحافظ على وجوده. لقد جربنا ايام وسنوات مظلمة اثرت في المجتمع بموارده البشرية والمادية هي استباحة قوى الشر والارهاب المدن العراقية ومصادرة ارواح وممتلكات المواطنين، فحين استباحت العصابات الارهابية القاعدة ومن بعدها عصابات داعش الارهابية المدن وانتهكت الحرمات وعاثت بالارض دماراً وفسادا وحين غابت الدولة عن بعض المدن آنذاك وهجرت المؤسسات الامنية والقضائية والصحية والتعليمية والخدمية أماكنها ماذا حل بالمواطنين؟ افتقروا الحقوق والحريات واصبحت صورة الهجرة والنزوح هي الشائعة على حساب صورة الاستقرار والبناء وتطوير الحياة. 
إنَّ نجاح الدولة كما يقول دكتور نادر كاظم في كتابه خارج الجماعة، في الحفاظ على انتماء مواطنيها لها والتزامهم بواجباتهم تجاهها تكمن بامكانية تنفيذ سياسة الاعتراف وهي سياسة متبادلة تعترف الدولة بشرعية حقوق ومطالب المواطنين والتزامها تجاههم مقابل اعتراف الموطنين بمشروعية حكم الدولة وسياستها، وهي السياسة الطبيعية التي تقوم عليها المجتمعات الديمقراطية وفق سلمية العمل المشترك والالتزام المتبادل بين الدولة والمواطن.
 لذلك لا بدّ من التأكيد على أن بقاء الدولة من بقاء المواطن وبقاء المجتمع وتماسكه وهي السلطة الوحيدة الضامنة لحقوق الجميع وهي القادرة على تحقيق العدالة التوزيعية والحفاظ على الحدود وتنظيم الشؤون العامة والصحة وهي صاحبة السلطة المطلقة وهذا هو العرف والقانون الذي يحكم دول العالم. وان اردنا عراقاً قوياً ومجتمعاً متماسكاً، لا بدّ من أن نعطي للدولة حقها ودورها في اقامة هذا المجتمع وتحقيق اسس العدالة والوحدة الوطنية. 
عود على بدء ومن مظاهر العلاقة الطبيعية بين الدولة والمجتمع برزت صورة جميلة في الاسبوع الماضي تعطي انطباعا أن بناء الدولة وقوتها ووجودها هو عمل مشترك بين السلطة السياسية والمجتمع، حين قام اصحاب المطالب الحقة والمشروعة في مدينة الناصرية بإعادة افتتاح جسر الزيتون في حلظة تاريخية تشترك بيها قوى المجتمع مع الاجهزة الامنية، إنهم بعثوا رسالة كبيرة في معناها، الجسر هو رابط للحياة بين المدن، وان البناء هو عمل مشترك مجتمعي سياسي، وحين يكون المتظاهر جزءا اساسا من اعادة الحياة للمدن بمعنى انه جزء من بناء الدولة ومؤسساتها وحين نصل الى هكذا احساس بالمسؤولية، نطمئن على أننا نسير في الاتجاه الصحيح، القوة الاخلاقية والمعنوية للمجتمع داعم كبير لقوة المؤسسات واساس في بنائها. وهي بالفعل خطوة تستحق كل احترام وتقدير وكما وصفها رئيس الوزراء خطوة تثبت ان الحوار لا التصادم هو الطريق لتفهم تطلعات الشعب، وكما شرعت الحكومة في بدء الحوار الجاد مع المتظاهرين لتلبية مطالبهم واستجاب هؤلاء لطلبات الدولة في اعادة الحياة الى مدنهم وفتح المناطق المغلقة وان تُعَبر صور التظاهر عن احقية المطالب، يبقى امام الدولة سرعة تنفيذ المطالب والحقوق المشروعة، فعملية البناء هي مشتركة تفاعلية وتكاملية تنجح بتكامل اداء كل الجهات السياسية والمجتمعية، فسرعة الاستجابة تجعل من الدولة فعلا ضامنا لحقوق المواطنين وترتفع مقدراتها في شرعية الحكم ومشروعية الاداء السياسي.
 
* باحث اكاديمي