الأعجف
ثقافة
2020/09/20
+A
-A
عزيز السيد جاسم
مساء كل أربعاء كان (الأعجف) لولب الجلسة في مقهى (السيم)، هو يناهز الخمسين في عمره، ناتئ، ضيق العينين، غليظ الشفتين، قوي الاسمرار، لا يميزه شيء سوى أنه أعجف.
كان يوقف سيارته فوق رصيف الشارع الفرعي للمقهى، ويجلس في الموعد المحدد في المكان الذي يجاور فيه سيارته تقريباً، ولايوجد فاصل سوى ألواح الزجاج ويلتقي معه في المقهى اربعة او خمسة أصدقاء، أو معارف، لا احد يعلم ذلك على وجه الدقة، ولكن المقهى شهدتهم معه لسنوات. عندما يتحدث (الأعجف) فإنه يمضغ الكلمات، كمن يأكل، وعيناه متنقلتان في نظرهما، نحو سيارته في الغالب، ونحو المارة والسيارات والعربات في الخارج، ولاينظر لأصحابه إلا لماماً. عيناه أيضا تبدوان في حالة مضغ
سريع.
وفيما اذا تكلم واحد من أصحابه، واضطره ذلك الى الصمت، فإن شفتيه تتلمظان بضغط كثيف تحت وطأة الرغبة العاتية لاستمرارية الكلام، وتشهق نظرات عينيه بعيداً، وبتعالٍ حاسم نحو نقطة او نقط وهمية في مكان ما، خارج مكان الجلسة، وأحياناً يرفق ذلك بحركات معينة، كأن يمد عنقه نحو شيء يلفت نظره، أو ينهض قليلاً ويدمدم بكلمات غامضة، وما من شك في أن الأصحاب كانوا يشاركونه نظراته الدهشة نحو شيء ما في الخارج نحو مجهول.
إنهم يفعلون ذلك بسبب ولائهم الشديد، ولبساطتهم. نعم، هو يتضايق من تسلّم زمام الكلام من قبل سواه، إلا أن أصحابه لا يدركون ذلك، لأنهم مولعون به.
في مساء شتوي هادئ، غصت المقهى بالرواد. واستقبل الأعجف مع أصحابه صديقاً قديماً له قائلاً:
ـ هذا صديق العمر الذي حدثتكم عنه كثيراً.
نظر الآخرون له بأعجاب خالص، فقد كان (عريبي) بطلاً ثانياً مع الأعجف. فلا عجب أن كانت النظرات تبوح بشوق شديد الى سماع صوت (عريبي) وحكايات الحب، والمغامرات..
ـ أوه عزيزي (عريبي) كنتُ أحدثهم
في الأمس عن مغامراتنا مع
النساء.
هبطت نظرات (عريبي) الى أسفل ... بصمت .. كان يفكر بشاي ساخن فقط..
ـ يالزمان الوصل بالأندلس!! (قال الأعجف ذلك، وضغط يداً بيد، وضحك ضحكة ناتئة، فيما كان ينتظر أصحابه منه أن يطلق حسرة طويلة، على كلٍ، انها طريقته في التعبير عن ذكرياته، فهو قطعاً يختلف عن سواه، والا لما كان حظي بلقب الأعجف(! .
جاء صبّي المقهى بالشاي. وانفرجت أسارير عريبي في الحال.
ـ أتذكر يا أعز الأعزاء أيامنا. مرت فترة زمنية طويلة لم نلتق. ولكنك أبداً في الذاكرة. فمن ينسى منا تلك المغامرات العظيمة التي كنا نجد أنفسنا فيها؟ قاتل الله المرأة،. كم هي شيّقة، ومسكرة. أوه. قل لي، كيف أنت الآن من حيث (الكذا !) وغمز له بعينه مقهقهاً. وقهقه الآخرون بأوتوماتيكية واحدة.
سأل عريبي: ماذا تقصد؟
ـ أقصد؟ (وضحك الأعجف طويلاً) إنك تفهمني بالاشارة. كنا هكذا دوماً. الواحد يعرف ما يدور في رأس الثاني. قلت لأصحابي: إننا نتفاهم بالاشارة. والواحد يفهم مقاصد الآخر بدون توضيح، وبدون كلمات ..
أصبح الأمر مبهماً بالنسبة لـ (عريبي)، فلاذ بالصمت. رغم ضحكة صغيرة بلهاء سرعان ما فرت من شفتيه.
ـ أقصد الرغبة الجنسية. كيف تقضي أيامك. فأصدقائي على علم بكل مغامراتنا الجنسية، وبذلك الشيق الذي قدمنا من أجله تضحيات كثيرة. هاه ؟
انتظر الآخرون متلهفين لسماع مغامرة، أو عبارة، أو كلمة. فـ (عريبي) هو رمز الصداقة، وشريك الأعجف في البسالة، والفحولة، وفي مصارعة الشدائد واقتطاف الثمرة..
تكلم عريبي: تعلم. (ثم مسح عرقاً بلل جبهته)
ازداد التصاق الآخرين واصغاؤهم.
بعد ثوان أكمل عريبي جملته: (انت تعلم اني أحقق رغباتي الجنسية مع زوجتي). كان شديد الخجل.
عربدت ضحكة الأعجف، وازداد قفزاً في مكانه، ويداه تلطمان ركبتيه بتواتر متناسب مع ضحكاته المرتفعة، وقفزاته المتتالية.
ـ ألم أقل لكم إنه يتظاهر دوماً وكأنه بسيط، مسكين، خجول. ألم أقل لكم ذلك؟
وارتفع ضحك أصحابه، وهم معجبون، بهذه الظاهرة.
عريبي الذي استطاع أن يعلّق زهرة على شعر رأس (سوزي) صديقته السابقة ومتى؟ في ليلة زواجها، متحدياً بذلك زوجها، وكل من في الدار ـ دون ان يشعر به أحد. وظلت سوزي تحلم به، ولم تسلم نفسها ابداً لزوجها. عريبي هذا يبدو بسيطاً جداً الى حد السذاجة. اندهشوا تماماً وتحولوا الى صبيان مبهورين بـ (شمشون) الذي يطل عليهم فجأة ..
نادى (عريبي) صبي المقهى. شاي رجاءً. قدح شاي آخر.. لم يقو على النظر الى الوجوه المحيطة به. طأطأ رأسه بعد ان نظر لحظة الى (الأعجف) الذي كان محدقاً به بابتسامة مشجعة. وبعتب لا ينقصه
الاستنكاف.
قال الأعجف :
ـ وهل تعد مضاجعة الزوجة جنساً؟
ضحك الجميع لهذه القفشة الذكية.
ـ لم لا؟ أجاب عريبي وهو مرتبك.
قهقه الأعجف عالياً. مثيراً انتباه الجالسين قريباً منه ومن صحابه..
ـ لم لا؟ كيف تقول ذلك، يا عريبي.. اننا الاسطورة في مغامراتنا البديعة، إذ عشنا أجمل سنوات العمر بحثاً عن اللذة الجنسية، وكنا نجد شهواتنا في أحضان صبايا الخامسة عشرة، والعذراوات والخليلات، والراقصات المقبلة من ضباب باريس ولندن وهنج كونج. هذا هو الجنس الذي عشناه. وذلك هو بهجة الحياة، ومغامرة
الوجود..
ثم ارتد الأعجف فوراً الى مسند الكنبة، متشاغلاً بنظرات خرافية متعالية مسحت سيارته ورؤوس رواد المقهى، على كثرتهم! إنصاع أصحابه للمشهد الفخم فوراً، والتوت براطمهم، وقطبت عيونهم، فقد مستهم لحظة عظمة.
لقد تجاوز عريبي الحدود. هذا ما دار في خلدهم ..
ـ حسنٌ (قال الأعجف) مالنا وذاك. أتذكر كيف كانت الراقصة عشيقة المليونير، والموله بها حباً. تدور حولنا كالفراشة. بنظرات بسيطة من قبلي تركت المليونير، والتفت حولي كطوق ورد، أتذكر ذلك. ثم كيف أشبعنا المليونير ضرباً بعد ان استفزنا متهماً إيانا بسرقة حبيبة عمره؟!
لم يستطع أحد الأصحاب كبح نفسه، فصرخ.
ـ إي. نعم. نعم، هذه القصة التي جرت في (أثينا) حدثنا عنها يا عريبي. حدثنا.
أخرسه الأعجف بكلمات قليلة: ما لنا وللأماكن إننا لا نفضح أمكنة مغامراتنا. تلك أسرارنا التي لا نسلمها بسهولة!
أليس كذلك يا صديقي الصدوق، عريبي؟
ـ نعم، نعم. قال عريبي متلكئا. وقاده الصمت الى تذكر حادثة لم تحصل في أثينا. او في روما. او في ميلانو. بل حصلت هنا في هذه المدينة وفي ملهى شعبي. تحرش الأعجف براقصة. كانت متجهة في فترة الاستراحة نحو مقصورة صغيرة. صفعته الراقصة على عينيه، فانهزم مذعوراً الى خارج الملهى. بعد ان شعر بتحرك أصحاب الراقصة من مقصورتهم. وقدم عريبي الثمن. أشبعوه ركلاً وضرباً، وجروه على الأرض مدمىً، ورموه خارجاً واحتاج بعد ذلك لعشرة أيام للتداوي والمعالجة..
ولكن (عريبي) لا يذكر ذلك. فهو قد تقبل بلا سؤال ما يقوله (الأعجف) المهم.
كثيراً ما شغل (عريبي) نفسه بقضية إنفاق الأعجف، فهو مسرف دوماً، ينفق على أصحابه وغير أصحابه بغير مبالاة.
وكان يحيط نفسه بأشخاص يشبعون شعوره بالأهمية والعظمة، ويرددون كلماته ويقلدون حركاته.
وعريبي نفسه أصبح شاهداً بطلاً. فالأعجف يسبغ عليه من أجل دور الشاهد أعظم صفات الشجاعة والمهارة، التي تدخل في دفتر صكوك بطولات ومغامرات الأعجف، البطل الأول الذي يقف الى جانبه البطل الثاني صديقه الصدوق: عريبي.
وعريبي لا يفقه شيئاً، الا انه راضٍ بالحال. ولم يناقش ذلك أبداً. ربما هو الآخر مستفيد، فلماذا يتعب نفسه بالأسئلة؟ ولماذا يطالب نفسه بموقف.
مرة قدمه الى زوجته قائلاً:
ـ اقدم لك عريبي صديق العمر، اشترك أبوه في الحرب العالمية الثانية الى جانب الألمان. قلده (هتلر) وسامين، الا انه وفي غمرة انتصار الالمان في اوربا الشرقية، رمى الوسامين في بالوعة، وتخلى عن الألمان في ذروة مجدهم، وافتتح متجراً بعد ذلك في حي من أحياء باريس. والتحق بالمقاومة الشعبية وقاتل ضد الألمان.
ثم ابتسم باسترخاء الواثق تماماً من صحة روايته ذاكراً :
ـ وها هو الآن في غرفة منسية، جسد تسكنه الشظايا. اكثر من عشرين شظية لم يكلف نفسه عناء استخراجها. وهذا البطل عريبي هو شبل ذاك الأسد!
كانت الزوجة تنظر الى (عريبي) بتقديس، وهي تسمع ذلك. يبدو انها تصدق ما يقوله زوجها كلمة كلمة.
وعنها كان يقول لـ (عريبي):
ـ انها ابنة احد كبار الصيارفة، وهي غنية لا بد ان ترث عقارات كبيرة لو ظلت مع اسرتها، ولكنها اختارتني رغم أهلها مضحية بالاسرة والجاه واللقب والاموال والارث الكبير. لقد طاردتني حتى لم اجد مناصاً من التسليم بالامر الواقع، وتزوجنا. هي تركت اهلها وانا تركت طبيعتي كجوال ابدي.
ثم أضاف، انها حازت على ثلاث شهادات اكاديمية عالية، ولكنها ترفض اية
وظيفة.
ومع ان عريبي بطيء التفكير، الا انه ليس بحاجة الى فطنة كبيرة، وذكاء متميز، ليعرف انها تكبره سناً، فهي امرأة يقع عمرها بين الخمسين والستين عاماً، ترتسم عليها سيماء ربات البيوت، انها سمراء مبقعة الوجه بالسواد، مرتخية القسمات غير معناة بتصفيف شعرها، ولا بهندامها.
ـ انك تفكر بعيداً يا عريبي؟ سأل (الأعجف) ثم تظاهر بالنظر الى الجهة المقابلة لعريبي مهملاً جواب سؤاله.
ـ لا.. ما من شيء محدد أفكر به (أجاب عريبي).
مع ذلك فإن الانفاق الواسع للأعجف كان يضرب صدغيه بالاسئلة، ان فواتير الحساب في المطاعم والملاهي وتكاليف سفرات التسلية مدفوعة دوماً من جيب الاعجف. رغم انه موظف بسيط وليس له من دخل غير مرتبه الشهري المحدود.
في هذه الاثناء اقترب شخص قصير أشيب الشعر كث اللحية، ترابي العينين ممزق الثياب، لم يغتسل منذ زمن، امتدت يده منادياً بخفوت.
ـ صدقة، صدقة لوجه الله.
اخرج عريبي قطعة نقدية من جيبه، فيما لوى الأعجف عنقه مشمئزاً، وبانت عليه صفرة فظيعة.
اقترب الشحاذ منه مركزاً عليه :
ـ صدقة، صدقة لوجه الله.
ازداد الأعجف انحساراً في مكانه وهجعه الى الوراء مبالغا في تجنبه الشحاذ. وبدت معالم ارتجاف في جسده.
ـ صدقة لوجه الله . (قال الشحاذ ذلك برنة غامضة فيها تصميم وشيء من التحدي)..
مساء كل أربعاء كان(الأعجف) لولب الجلسة في مقهى”السيم”، هو يناهز الخمسين في عمره، ناتئ، ضيق العينين، غليظ الشفتين، قوي الاسمرار، لا يميزه شيء سوى أنه أعجف.
كان يوقف سيارته فوق رصيف الشارع الفرعي للمقهى، ويجلس في الموعد المحدد في المكان الذي يجاور فيه سيارته تقريباً، ولا يوجد فاصل سوى الواح الزجاج ويلتقي معه في المقهى اربعة او خمسة أصدقاء، أو معارف، لا أحد يعلم ذلك على وجه الدقة، ولكن المقهى شهدهم معه لسنوات.
عندما يتحدث (الأعجف) فإنه يمضغ الكلمات، كمن يأكل، وعيناه متنقلتان في نظرهما، نحو سيارته في الغالب، ونحو المارة والسيارات والعربات في الخارج، ولا ينظر لأصحابه الا لماماً. عيناه أيضا تبدوان في حالة مضغ سريع.
وبينما اذا تكلم واحد من أصحابه، واضطره ذلك الى الصمت، فإن شفتيه تتلمظان بضغط كثيف تحت وطأة الرغبة العاتية لاستمرارية الكلام، وتشهق نظرات عينيه بعيداً، وبتعالٍ حاسم نحو نقطة او نقط وهمية في مكان ما، خارج مكان الجلسة، وأحياناً يرفق ذلك بحركات معينة، كأن يمد عنقه نحو شيء يلفت نظره، أو ينهض قليلاً ويدمدم بكلمات غامضة، وما من شك في أن الأصحاب كانوا يشاركونه نظراته الدهشة نحو شيء ما في الخارج نحو مجهول.
إنهم يفعلون ذلك بسبب ولائهم الشديد، ولبساطتهم. نعم، هو يتضايق من استلام زمام الكلام من قبل سواه، الا ان اصحابه لا يدركون ذلك، لأنهم مولعون به.
في مساء شتوي هادئ، غص المقهى بالرواد. واستقبل الأعجف مع أصحابه صديقاً قديماً له قائلاً:
ـ هذا صديق العمر الذي حدثتكم عنه كثيراً.
نظر الآخرون له باعجاب خالص، فقد كان (عريبي) بطلاً ثانياً مع الأعجف. فلا عجب إن كانت النظرات تبوح بشوق شديد الى سماع صوت (عريبي) وحكايات الحب، والمغامرات..
ـ أوه عزيزي (عريبي) كنتُ أحدثهم في الأمس عن مغامراتنا مع النساء.
هبطت نظرات (عريبي) الى أسفل.. بصمت.. كان يفكر بشاي ساخن فقط.
ـ يالزمان الوصل بالأندلس!! (قال الأعجف ذلك، وضغط يداً بيد، وضحك ضحكة ناتئة، بينما كان ينتظر أصحابه منه أن يطلق حسرة طويلة، على كلٍ، انها طريقته في التعبير عن ذكرياته، فهو قطعاً يختلف عن سواه، والا لما كان حظي بلقب الأعجف!).
جاء صبّي المقهى بالشاي. وانفرجت اسارير عريبي في الحال.
ـ أتذكر يا أعز الأعزاء أيامنا. مرت فترة زمنية طويلة لم نلتق، ولكنك أبداً في الذاكرة. فمن ينسى منا تلك المغامرات العظيمة التي كنا نجد أنفسنا فيها؟ قاتل الله المرأة،. كم هي شيّقة، ومسكرة. أوه. قل لي، كيف أنت الآن من حيث (الكذا!) وغمز له بعينه مقهقهاً. وقهقه الآخرون بأوتوماتيكية واحدة.
سأل عريبي: ماذا تقصد؟
ـ أقصد؟ (وضحك الأعجف طويلاً) إنك تفهمني بالاشارة. كنا هكذا دوماً. الواحد يعرف ما يدور في رأس الثاني . قلت لأصحابي: إننا نتفاهم بالاشارة. والواحد يفهم مقاصد الآخر بدون توضيح، وبدون كلمات.
أصبح الأمر مبهماً بالنسبة لـ (عريبي)، فلاذ بالصمت. رغم ضحكة صغيرة بلهاء سرعان ما فرت من شفتيه.
ـ أقصد الرغبة الجنسية. كيف تقضي أيامك. فأصدقائي على علم بكل مغامراتنا الجنسية، وبذلك الشيق الذي قدمنا من أجله تضحيات كثيرة. هاه؟
انتظر الآخرون متلهفين لسماع مغامرة، أو عبارة، أو كلمة. فـ (عريبي) هو رمز الصداقة، وشريك الأعجف في البسالة، والفحولة، وفي مصارعة الشدائد واقتطاف الثمرة.
تكلم عريبي: تعلم. (ثم مسح عرقاً بلل جبهته)
ازداد التصاق الآخرين واصغاؤهم.
بعد ثوان أكمل عريبي جملته: (انت تعلم اني أحقق رغباتي الجنسية مع زوجتي). كان شديد الخجل.
عربدت ضحكة الأعجف، وازداد قفزاً في مكانه، ويداه تلطمان ركبتيه بتواتر متناسب مع ضحكاته المرتفعة، وقفزاته المتتالية.
ـ ألم أقل لكم أنه يتظاهر دوماً وكأنه بسيط، مسكين، خجول. ألم أقل لكم ذلك؟
وارتفع ضحك أصحابه، وهم معجبون، بهذه الظاهرة.
عريبي الذي استطاع ان يعلّق زهرة على شعر رأس (سوزي) صديقته السابقة ومتى؟ في ليلة زواجها، متحدياً بذلك زوجها، وكل من في الدار ـ دون ان يشعر به أحد. وظلت سوزي تحلم به، ولم تسلم نفسها ابداً لزوجها. عريبي هذا يبدو بسيطاً جداً الى حد السذاجة. اندهشوا تماماً وتحولوا الى صبيان مبهورين بـ (شمشون) الذي يطل عليهم فجأة.
نادى (عريبي) صبي المقهى. شاي رجاءً . قدح شاي آخر.. لم يقو على النظر الى الوجوه المحيطة به. طأطأ رأسه بعد ان نظر لحظة الى (الأعجف) الذي كان محدقاً به بابتسامة مشجعة. وبعتب لا ينقصه الإستنكاف.
قال الأعجف:
ـ وهل تعد مضاجعة الزوجة جنساً؟
ضحك الجميع لهذه القفشة الذكية.
ـ لم لا؟ أجاب عريبي وهو مرتبك.
قهقه الأعجف عالياً، مثيراً انتباه الجالسين قريباً منه ومن اصحابه.
ـ لم لا؟ كيف تقول ذلك، يا عريبي.. اننا الاسطورة في مغامراتنا البديعة، حيث عشنا أجمل سنوات العمر بحثاً عن اللذة الجنسية، وكنا نجد شهواتنا في احضان صبايا الخامسة عشرة، والعذراوات والخليلات، والراقصات القادمة من ضباب باريس ولندن وهنج كونج. هذا هو الجنس الذي عشناه. وذلك هو بهجة الحياة، ومغامرة الوجود..
ثم ارتد الأعجف فوراً الى مسند الكنبة، متشاغلاً بنظرات خرافية متعالية مسحت سيارته ورؤوس رواد المقهى، على كثرهم! إنصاع أصحابه للمشهد الفخم فوراً، والتوت براطمهم، وقطبت عيونهم، فقد مستهم لحظة عظمة.
لقد تجاوز عريبي الحدود. هذا ما دار في خلدهم..
ـ حسنٌ (قال الأعجف) مالنا وذاك. أتذكر كيف كانت الراقصة عشيقة المليونير، والمدلة بها حباً. تدور حولنا كالفراشة. بنظرات بسيطة من قبلي تركت المليونير، والتفت حولي كطوق ورد أتذكر ذلك. ثم كيف أشبعنا المليونير ضرباً بعد ان استفزنا متهماً ايانا بسرقة حبيبة عمره؟!
لم يستطع أحد الأصحاب كبح نفسه، فصرخ.
ـ إي. نعم. نعم، هذه القصة التي جرت في (أثينا) حدثنا عنها يا عريبي. حدثنا.
أخرسه الأعجف بكلمات قليلة: ما لنا وللأماكن إننا لا نفضح أمكنة مغامراتنا. تلك أسرارنا التي لا نسلمها بسهولة!
أليس كذلك يا صديقي الصدوق، عريبي؟
ـ نعم، نعم. قال عريبي متلكئا. وقاده الصمت الى تذكر حادثة لم تحصل في أثينا. او في روما. او في ميلانو. بل حصلت هنا في هذه المدينة وفي ملهى شعبي. تحرش الأعجف براقصة. كانت متجهة في فترة الاستراحة نحو مقصورة صغيرة. صفعته الراقصة على عينيه، فانهزم مذعوراً الى خارج الملهى، بعد ان شعر بتحرك أصحاب الراقصة من مقصورتهم. وقدم عريبي الثمن. أشبعوه ركلاً وضرباً، وجروه على الأرض مدمىً، ورموه خارجاً واحتاج بعد ذلك لعشرة أيام للتداوي والمعالجة.
ولكن (عريبي) لا يذكر ذلك. فهو قد تقبل بلا سؤال ما يقوله (الأعجف) المهم.
كثيراً ما شغل (عريبي) نفسه بقضية إنفاق الأعجف، فهو مسرف دوماً، ينفق على أصحابه وغير أصحابه بغير مبالاة.
وكان يحيط نفسه بأشخاص يشبعون شعوره بالأهمية والعظمة، ويرددون كلماته ويقلدون حركاته.
وعريبي نفسه أصبح شاهداً بطلاً. فالأعجف يسبغ عليه من أجل دور الشاهد أعظم صفات الشجاعة والمهارة، التي تدخل في دفتر صكوك بطولات ومغامرات الأعجف، البطل الأول الذي يقض الى جانبه البطل الثاني صديقه الصدوق: عريبي.
وعريبي لا يفقه شيئاً، الا انه راض بالحال. ولم يناقش ذلك أبداً. ربما هو الآخر مستفيد، فلماذا يتعب نفسه بالأسئلة؟ ولماذا يطالب نفسه بموقف.
مرة قدمه الى زوجته قائلاً:
ـ اقدم لك عريبي صديق العمر، اشترك أبوه في الحرب العالمية الثانية الى جانب الألمان. قلده (هتلر) وسامين، الا أنه وفي غمرة انتصار الالمان في اوروبا الشرقية، رمى الوسامين في بالوعة، وتخلى عن الألمان في ذروة مجدهم، وافتتح متجراً بعد ذلك في حي من أحياء باريس. والتحق بالمقاومة الشعبية وقاتل ضد الألمان.
ثم ابتسم باسترخاء الواثق تماماً من صحة روايته ذاكراً:
ـ وها هو الآن في غرفة منسية، جسد تسكنه الشظايا. اكثر من عشرين شظية لم يكلف نفسه عناء استخراجها، وهذا البطل عريبي هو شبل ذاك الأسد!
كانت الزوجة تنظر الى (عريبي) بتقديس، وهي تسمع ذلك. يبدو انها تصدق ما يقوله زوجها كلمة كلمة.
وعنها كان يقول لـ (عريبي):
ـ انها ابنة احد كبار الصيارفة، وهي غنية لا بد من أن ترث عقارات كبيرة لو ظلت مع اسرتها، ولكنها اختارتني رغم أهلها مضحية بالاسرة والجاه واللقب والاموال والارث الكبير، لقد طاردتني حتى لم اجد مناص من التسليم بالامر الواقع، وتزوجنا. هي تركت اهلها وانا تركت طبيعتي كجوال ابدي.
ثم أضاف، انها حازت على ثلاث شهادات اكاديمية عالية، ولكنها ترفض اية وظيفة.
ومع ان عريبي بطيء التفكير، الا انه ليس بحاجة الى فطنة كبيرة، وذكاء متميز، ليعرف أنها تكبره سناً، فهي إمرأة يقع عمرها بين الخمسين والستين عاماً، ترتسم عليها سيماء ربات البيوت، انها سمراء مبقعة الوجه بالسواد، مرتخية القسمات غير معناة بتصفيف شعرها، ولا بهندامها.
ـ انك تفكر بعيداً يا عريبي؟ سأل (الأعجف) ثم تظاهر بالنظر الى الجهة المقابلة لعريبي مهملاً جواب سؤاله.
ـ لا.. ما من شيء محدد أفكر به (أجاب عريبي).
مع ذلك فإن الانفاق الواسع للأعجف كان يضرب صدغيه بالاسئلة، ان فواتير الحساب في المطاعم والملاهي وتكاليف سفرات التسلية مدفوعة دوماً من جيب الاعجف، رغم انه موظف بسيط وليس له من دخل غير مرتبه الشهري المحدود.
في هذه الاثناء اقترب شخص قصير اشيب الشعر كث اللحية، ترابي العينين ممزق الثياب، لم يغتسل منذ زمن، امتدت يده منادياً بخفوت.
ـ صدقة، صدقة لوجه الله.
اخرج عريبي قطعة نقدية من جيبه، بينما لوى الأعجف عنقه مشمئزاً، وبانت عليه صفرة فظيعة.
اقترب الشحاذ منه مركزاً عليه:
ـ صدقة، صدقة لوجه الله.
ازداد الأعجف انحساراً في مكانه وهجعه الى الوراء مبالغا في تجنبه الشحاذ. وبدت معالم ارتجاف في جسده.
ـ صدقة لوجه الله . (قال الشحاذ ذلك برنة غامضة فيها تصميم وشيء من التحدي).
لم يتمالك الأعجف نفسه فصرخ:
ـ اغرب، اغرب عن وجهي ايها الشحاذ. هيا اغرب عن وجهي..
اثار الزعيق انتباه رواد المقهى. وتحول مشهد الضوضاء، ولعب الدومينو ، وتعاطي الأكل والشرب، الى مشهد صمت.
وغزا الشلل حواس الحضور. ولف الجمود أرجاء المقهى. فقد بدت في صراخ الأعجف زعقات غريبة.
للحظات وقف الشحاذ صامتاً محدقاً بالأعجف.
ثم ارتفع صوته: صدقة لوجه الله.
بصق عليه الأعجف. ثم نهض مغادراً المقهى بعجلة. تراكض وراءه أصحابه. وظل (عريبي) في مكانه محرجاً. لا يستطيع النظر الى الشحاذ الذي كف عن الكلام منكساً رأسه منتقلاً الى آخرين.
لحق عريبي بالأعجف، ولامه برفق.
ـ إنه محتاج وكبير السن. وكان بامكانك أن تصرفه بدرهم. او برفق. تذكر (وأما السائل فلا تنهر).
ـ أوه دعنا من هذه الاحاديث. اني اكره الشحاذين والفقراء. اني خلقت للسعادة والرفعة فلماذا تنغص عليّ؟ هيا لنذهب الآن الى اقرب ملهى من الدرجة الاولى. إن الليل للسهر، هيا،
هيا.
وبالفعل اكملوا السهرة. وفي الثانية ليلاً غادروا الملهى، واستقبلهم الشارع الشجري الطويل بأنواره الخافتة، وظلاله المتقاربة وصمته المخيم، الذي أحاط بالزمرة الصغيرة بكونية عميقة تحولوا فيها الى اشباح صغيرة سرعان ما احتمت بالسيارة. وفي لحظة انطلاق السيارة، انطلق صوت جريح، شديد الوضوح من زاوية مجهولة هاتفاً: صدقة، صدقة لوجه الله.
وفرت السيارة، كأن جيوشاً من الجن تطاردها. وفي الجوار من ساحة عمومية قريبة من بيت الأعجف، تبادل الجميع تحيات الوداع،
وتفرقوا.
لكن الأعجف سرعان ما صرخ: عريبي هلا جئت معي الى البيت؟
ـ لكن الوقت متأخر..
ـ لا. لا يهم ذلك إنني متعب وبحاجة اليك، وفي داخل البيت، كانت زوجة الأعجف مازالت منتظرة .
ـ ألم أقل لك، ان لا تنتظريني ايتها المسخ؟
ـ لقد جاءت إمرأة شابة انتظرتك طويلاً..
ـ شابة؟ أوه ما أكثر الشابات والصبايا اللواتي لا يتعبهن البحث عني، ثم ضحك بفخر وتعالٍ. واضاف: نحن صفوة القدم، الصفوة في كل شيء. في الوظيفة وفي المجتمع، في الغرام، في الخير، في الشر، في المكاسب. نحن نبلغ الثمانين من العمر، وتلهث وراءنا الفتيات كالفراشات يلهثن حول النور.
كانت الزوجة مطرقة
ـ والآن هيا اذهبي. فالسرير لا يتسع لأحد سواك. هيا ..
ـ ولكن، (تكلمت بتكتم شديد)
ـ ولكن ماذا ايتها الضفدعة. هل دفعتك الغيرة الى محاولة سرقة وصال جنسي معي؟ او تريدين اغتصابي؟ لكم اشمئز منك، ومن طريقتك في محاصرتي..
ـ ولكن.
ـ لكن، لكن، لكن ماذا تريدين؟ انت فردة حذاء لا غير.
ـ اردت القول انها قالت لي: اخبريه ان اسمي (عواطف).
ـ ماذا ؟ صرخ الأعجف بحدة، وضرب رأسه بكفيه متأوهاً.
لم يقو على الاستمرار واقفاً، وتلاشى بسرعة على اقرب مقعد..
استولى على البيت سكون ثقيل، وغاب الأعجف عن الشعور. بينما انزوجت زوجته في ركن شبه مظلم.
ولم يجد (عريبي) مفراً من الانسحاب.
انقطع الأعجف عن ارتياد مقهى (السيم). قالوا انه يرتاد مقهاً آخر. الا ان (عريبي) ليس متأكداً من ذلك.. فآثر ان يزور بيت الأعجف.. بعد أن طال الانقطاع.. لعدة اسابيع..
وفي ظهيرة، شاعت فيها الرطوبة في الجو، واخذت السحب البيضاء تتلاحق بحركة غير متلائمة، مع صمت الهواء الكئيب كانت خطوات عريبي تتسارع نحو بيت الأعجف.
وهناك في البيت ، كانت الإمرأة الشابة التي تسمى (عواطف) موجودة..
رقبها (عريبي) وهي تتحدث. بدت له شديدة الحياء، واسعة العينين، امتزجت بسوادهما وبياضهما انسجامات دنيوية متطامنة، وعلى شدة احتشامها، والتفافها بالعباءة لم تستطع كبح انطلاق خصلة نافرة من شعرها، ظلت جانباً من جبهتها العريضة، المشرقة رغم سمرة الوجه.
سمعها تقول: منذ أيام أجيء وهو غير موجود ترى الى متى يتهرب مني؟
أجابتها زوجة الأعجف: ولكن ماذا فعل لك بحق الله؟!
ـ لاشيء، لا شيء. انت زوجته، فماذا اقول لك؟ كان يخبرني انك أمه!
ـ إذن هي علاقة غرام بينكما!
ـ لا. أكبر من ذلك..
ـ أكبر من ذلك ؟! يا ويح نفسي ماذا تعنين؟
ـ لندع الكلام جانباً. فثمة أحد هنا.
تدخل عريبي:
ـ عفواً. انا صديقه، ولست احداً كسائر الآخرين..
ـ اعتذر. وكم بودي ان لا احرج احداً.
حاولت زوجة الأعجف كظم انفعالها، الا انها لم تستطع صبراً..
ـ تحدثي، واهجري الالغاز. اسمك عواطف. ومنذ مدة تجيئين وتروحين، وانا لا افقه شيئا.
ماذا يدور. اخبريني..
ـ ماذا اقول؟ ماذا اقول؟
ثم شهقت باكية، وانفلتت مسرعة، الى خارج البيت..
لم يجد عريبي بأساً في ان يتبعها..
ورغم سرعة مشيها فقد كانت متسربلة بحياء عامر، ومن شارع الى شارع، استطاع ان يتابعها ويتوصل الى معرفة البيت الذي دخلته.
كان بيتاً بسيطاً، يشبه عشرات البيوت المجاورة التي ظهرت وكأنها قدّت من قالب واحد.
قال لنفسه: لماذا لا اجازف واطرق الباب عسى ان اعثر على حقيقة أمرها.
ثم استدرك: ولكن لا، ربما تخفي هي سراً عن أهلها ايضاً، فلماذا افضحها!! فلأذهب اذن وابحث عن الأعجف.
فكر مليا، ووجد ان أفضل سبيل للقاء به هو انتظاره قرب بيته، حتى ولو الى ساعة متأخرة من الليل. فهو لابد ان يؤوب..
كانت هناك حديقة عتيقة مقابلة لبيت الأعجف، استند عريبي الى سياجها، وظل منتظراً، وهو يستعيد تفاصيل علاقته بالأعجف.
كانت بداية العلاقة في سجن صحراوي ، مع مجموعة من السجناء السياسيين، بدا الأعجف مليئاً بالحيوية والصحة، ورغم انه من اسرة فقيرة، الا أنه كان شديد الحرص على هندامه، ولم يكن يخفي ملامح ذوق ارستقراطي يتمتع به.
وفي السجن كانت تصله رسائل مرفقة بنقود، وعندما يسأله أحد عن الرسائل، كان يبتسم ويقول: إنها رسائل الأهل لقد كان متكتماً ويرفض زيارات أسرته واقربائه له، ولم يستطع احد الولوج الى أسرار الأعجف. فهو مغلقٌ على نفسه بلا انطواء، وعندما تصله رسالة يحتفظ بها في جيبه، ولا يعرف احد متى يقرأها وأين. علق أحد الأصدقاء من السجناء: وهل هناك مكان مناسب لقراءة خطابات الاسرار في السجن غير المرافق الصحية؟!
لا ينزعج الأعجف بل يضحك ويلوذ بالصمت.
في أحد الأيام عثر عريبي على رسالة في جيب داخلي في ثوب الأعجف، وكان حينذاك مكلفا بغسل ملابس السجناء. ولم يمنع نفسه من الاطلاع عليها. كانت موجزة جداً. وتضمنت كلمات حب واخلاص. وعبارة لايزال عريبي يتذكرها جيداً: (من أجل ان نمدك بالنقود سنعمل المستحيل). لم تكن الرسالة مذيلة باسم او توقيع.
توقف شريط الذكريات، بقدوم سيارة الأعجف، لكن السيارة لم تتوقف قرب البيت بل سارت متجه صوب مكان آخر في الشارع
نفسه.
هبط منها شخص سرعان ما اقلته سيارة خاصة، يبدو انها سيارته.
من هذه الشخصية الغامضة التي كانت مع الأعجف، ولماذا يجري التكتم في العلاقة الى هذا الحد؟
لم يحاول (عريبي) أن ينادي على الأعجف، لأنه كان مشغولاً بألغازه.
في السجن الصحراوي كانت الأيام متشابهة، وكانت تصل الأعجف اغذية ونقود من فترة لأخرى.. عرف زملاء السجن في ما بعد ان هناك إمرأة تحبه.
لم تكن هناك تفاصيل مهمة في حياة السجن، سوى ان الأعجف قد أصبح شديد الانطواء في الفترة الأخيرة، وكان يستدعى احياناً من قبل ادارة السجن، وعندما كان احد السجناء يسأله عن الاستدعاء كان يهز رأسه ويبالغ في الانطواء.
بينما بعد انتهاء فترة السجن، لم تكن هناك تفاصيل مهمة ايضاً، سوى ان انفاق الأعجف ما كان يتلاءم مع مرتبه الشهري البسيط.
كما انه أصبح شخصا آخر يختلف عما كان عليه في السجن.
سأله عريبي مرة: إنك تغيرت كثيراً؟
فأجابه: لقد خرجت من بئر الأفاعي، من السياسة، وتفتحت لي الحياة الآن.
قال عريبي: ولكنك انت الذي اخترت السياسة؟
أجاب: نعم، لكن ذلك لم يكن حباً بالوطن والشعب، كما كنت أردد في الشعارات.
ـ اذن؟
ـ كان يسوقني طموح شخصي. ان اكون مهماً. ان اثير الانتباه، وكانت السياسة طريقي حينذاك، ثم اني تحطمت بسبب ذلك، فعرفت كم كنت واهماً.
ـ ولكنهم لم يتركوك حتى اذا هجرت السياسة..
ـ أوه. البوليس، لا مشكلة لي معهم بعد الآن.
في الغد صمم عريبي على الالتقاء بعواطف.
ـ أنا صديقه..
ـ أعرف ذلك..
ـ شيء ما يجري لابد لي ان اتحدث وإياك عنه..
ـ ما الفائدة ؟ كان (رشاد) حبيبي، وكنت اشاركه افكاره السياسية، وفصلت من المدرسة بسبب ذلك.. لقد تعاهدنا على الوفاء والزواج.
وعندما تلقفه السجن ازددت فخراً به، وكنت امده بجميع احتياجاته، رغم بؤس أسرتي التي عانت الكثير من أجل حبي.
كان يعدني بالأمل بالزواج، حالما يخرج من السجن. ولكن كيف كان لي أن أشعر انه أصبح شخصاً آخر؟! بدأت ادرك الآن انه يتهرب مني. وها أنا الآن شبه مجنونة، لا أطيق تحمل نظرات افراد أسرتي.
لقد طعنت في أنبل أحساساتي، في وجودي. هذا هو صديقك. قل لي ماذا تستطيع ان تفعل؟ او ماذا استطيع أن افعل أنا؟
صمت عريبي ثم سأل:
ـ هل تعرفين زوجته؟
ـ هاه. من هنا تبتدئ الاثارة. بالأمس هددتني، مذكرة إياي بأنها ليست كما تتصور. انها اخت احد رجال الشرطة السرية..
ـ اخت احد رجال الشرطة السرية!
ـ نعم ، نعم. لقد باعني، باع الحب بصفقة..
ـ ولكن، ولكن، لا أدري ماذا دهاني ارجو المعذرة..
ثم ودعها عريبي، وقد نهشت رأسه أصوات مفزعة.
قادته خطاه، وهو مهموم الى بيت (صاحب) صديقه. وما ان احتوته غرفة الاستقبال حتى بادره (صاحب) غامزاً: هاه، ماذا ألم بك: أن صحبة الأعجف لذيذة. غرام وجولات وبذخ. اليس كذلك؟
ـ دعنا من ذلك يا صاحب، إنه يثير قلقي.
ـ قلقك؟! يا للمسكين. انك متأخر، وتثير السخرية حقاً..
ـ أنا؟ لماذا؟
ـ أتدري ما يدور من لغط عن الأعجف؟ انت طبعاً لست آخر من يدري، بل وآخر من يصدق أيضاً.
ـ بربك قل لي ماذا يدور؟
ـ اتذكر(عامر)؟
ـ أي نعم، ولكنه في مدينة أخرى..
ـ نعم، ولكنه جاء الى هنا، ويبدو انه لا يزال يواصل نشاطه السياسي، والتقى بالأعجف في مقهى شعبي، اتعلم ماذا حصل بعد
ذلك؟
ـ ماذا قل لي..
ـ بعد ان ودع الأعجف عامر ومضى، جاءت مفرزة من البوليس السري، واعتقلت عامر..
ـ هم.
ـ وثمة معلومات عديدة اخرى، تشير الى انه متواطئ مع البوليس السري. اتذكر كيف كان سلوك الأعجف في الفترة الأخيرة من السجن؟
ـ لا.
ـ كيف لا؟ لقد كان مريباً، وكان يلتقي بادارة السجن من فترة لأخرى، وعندما كنا نسأله كان يجيب: انه احد افراد اسرته. كان يزوره، والذي اثار قلقنا حينذاك هو التوقيق بين زيارة شخصية مهمة الى السجن، وبين مواعيد الزيارات الخصوصية للأعجف. كانت زيارة الشخصية المهمة مثار ارتباك الشرطة.
ـ انه أمر ينطوي على أعاجيب..
ـ يقال أيضاً ان أحد ضحاياه من الأبرياء. انتهى بأن تحطم نهائياً وأصبح شحاذاً..
ـ شحاذاً!
ـ نعم. كان أشبه بالأب بالنسبة للأعجف. كان يقدم له كل شيء ويرعاه قبل السجن، وفي السجن. ويقال إن الأعجف كان على علاقة حب بأبنة ذلك الشخص..
وفي الأخير اراد التخلص من العبء هذا، لأنه أراد تغيير حياته كليا وقطع كل من يمت الى الماضي بصله، وراد ان يجهز على جميع اعتبارات الالتزام والقيم، حتى يترفع في خيانته الكاملة.
ـ بالله عليك. ماذا حصل؟ أكمل.
ـ كما قلت لك. حطم ولي نعمته، وأب حبيبته. بادئ الامر هجر حبيبته، ثم أدخل أباها في زنزانات التعذيب على الرغم من أنه رجل بسيط، بعيد عن السياسة.
وخرج من اقبية التعذيب كائناً مشوهاً، معدماً ، خسر كل شيء. وظيفته البسيطة، وأعصابه، ويقال إنه خسر ذاكرته أيضاً..
ـ الذاكرة! قال عريبي مستفهماً وكأنه يدرك الجواب مسبقاً..
ـ لم لا؟
ـ لا أعتقد انه خسر ذاكرته. لاني رأيته.
ـ رأيته؟!
ـ نعم. وكان يجأر (صدقة لوجه الله) بصوت إتهامي., حينذاك، عندما سمعته ارتعدت فرائضي. وكان الأعجف مذعوراً!.
ـ هكذا اذن؟
ـ بل إن الصورة اصبحت الآن واضحة لديّ. لقد عرفت حبيبته. عواطف التي كانت تراسله وهو في السجن وتبعث له باحتياجاته.
ياللعجب! لقد رأيت الشحاذ..
وعواطف في فترة واحدة، وفي أماكن مختلفة...
لا بد أن شيئاً ما يجري..
الى هنا انتهت القصة من دون ان يلحق السيد على اكمالها فقد كانت يد الطاغية قد
غيبته