لا شك أن الكاتب المغيّب عزيز السيد جاسم موسوعة ثقافية فكرية لايمكن تجاوزها أو نسيانها على مرّ العصور، ويكفيه فخرا أنه كان حاضرا في ميادين الفكر والثقافة المتنوعة، وهو حضور نوعي وفاعل ومثير للجدل في كل مايقدمه من طروحات فكرية على مستوى الفكر اليساري أو القومي.
لسنا بصدد الحديث عن سيرته الإبداعية الغنية بصفحات معدودة.. لكنني أقف أمام آخر نصّ سردي كتبه المفكر المغيّب عزيز السيد جاسم ألا وهو «الأعجف»، وينشر بوصفه قصة قصيرة، وأنا أراه غير ذلك، وسوف أبيّن ذلك في ختام هذه المقالة، يكشف هذا النصّ في بنيته المركزية أزمة المثقف الإطاري في إدارته للنصّ السردي، وهذه مشكلة أساسية لدى الكثير من الكتاب الذين عاشوا تجارب سياسية مرّة في مراحل حياتهم النضالية وأبقوا على قناعاتهم الايديولوجية، أو تحولوا من متمرّدين على سلطة الطغاة إلى متماهين مع السلطة «أو مايسمى الانهيار من أثر التعذيب»، إذ كانت الصحف العراقية تزخر بالاعترافات السياسية التي تنشر بعد الاعتقال وخروج المعتقلين من السجون، ونرى في التجارب السردية الإطارية في العراق أو الوطن العربي منذ أربعينيات القرن الماضي حتى يومنا هذا الكثير من هذه النماذج التي يزخر بها السرد العربي.
يبقى المثقف الإطاري يعيش أزمته مع الداخل «الذات» ومع الخارج «العالم – الوهم» وهو ما يرتكز عليه نصّ «الأعجف»، فإذا ما ذهبنا إلى دلالات العتبة وقاربنا مابين تلك الدلالات والبنية الإطارية للأحداث نرى في هذا النصّ إشهارا إطاريا قصديا يفصح عن مكنونات الوهم الذي يعيشه السارد والذي أراد فرضه على الشخصيات وتقبّله «واقعًا» حقيقيا لا «وهما» مشتهى، وهذا هو سرّ هندسة هذا النصّ السردي الذي لا يبتعد عن حدود معنى العتبة القاموسي، إذ سار النصّ في مجاراة الدلالات المتعددة للعتبة النصية، كأنه بخط نوته لموسيقى حركة النصّ تتناغم مع التوجّهات الإطارية والنفسية للسارد الذي يقوم بتشكيل الأحداث أمام أعين جلاسه.
إذ لم يخف النصّ تلك الإشارية الإشهارية ليقود المتلقّي إلى التماهي مع العتبة «الأصحاب كانوا يشاركونه نظراته الدهشة نحو شيء ما في الخارج نحو المجهول»، وهنا التأكيد «نحو شيء ما في الخارج»، ولو بقيت الجملة السردية عند هذا الحد لما كانت ذات إثارة أو بعد، وإنما تقرير لحالة وصفية أو رصد وصفي، ولكن السارد ألحقها بـ «نحو المجهول»، ليمنح بُعدًا توقعيًا للنصّ يعيشه المتلقي لاكتشاف ما يأتي من أفعال وحوادث وأفكار.
ماهو ذلك المجهول؟ وكيف يمكن اكتشافه؟ وماهو المضمر في أصل الحكاية السردية «للأعجف»؟ وماهي الحكايات التي دونها السارد في فضاء البياض قبل العتبة؟ تلك الحكايات التي ترد إشاراتها في طيّات الحوارات في تلك الجلسة «بالذات» التي هشمت الإيقاع الرتيب للحكاية السردية، حكاية كل يوم «الجلوس في المقهى والتحليق مع الأوهام».
كان قطبا تهشيم الحكاية هما «الصديق– عريبي» و»الشحاذ»، وكلاهما دخلا على خطّ الحكاية ليعاد ترتيب صياغة الحوادث ومتغيّرات مجرى السرد بما يكشف التلاعب في أسرار الحكاية عبر ثنائية «الاستباق والاسترجاع»، فقد أراد الاستباق السردي أن يذهب بالنصّ إلى أقصى مديات الوهم والبطولة الزائفة والكذب والتدليس والخيانة، فيما راح الاسترجاع يستقصي حقيقة تلك الحكايات التي أشاعها السارد في بياض النصّ لتصبح حقائق راسخة عن أمجاد الأعجف وبطولاته في ذاكرة جلاسه وتبحث عن من يبصم عليها لتكون حكايات خالدة، لذلك يؤكد السارد «لقد خرجت من بئر الأفاعي، من السياسة وتفتّحت لي الحياة الآن»، وهو الأمر الذي يؤكده لاحقًا في جملة «الترفع في الخيانة الكاملة».
أشرنا في بداية مقالنا إلى تحفظنا على تجنيس النصّ بـ «قصة قصيرة» ولهذا التحفظ موجبات فنية، فقد كانت بنية المشهد الاستهلالي للنصّ السردي بنية واسعة ممتدة على فضاءات متعددة، مما تتيح وتشير إلى تنوع في الحوادث وامتداد في الحكايات التي تسرد في متن النصّ، ولم يتجه النصّ إلى الاختزال والتركيز كما يشترط ذلك في النصوص القصصية، فقد بني هذا النص بوصفه استهلالا لسردية روائية تتناغم وتتواصل مع تجربتيه السابقيتين من الناحية الإطارية والفنية والأسلوبية، فقد أشارت جملة ختام المشهد الافتتاحي للنصّ إلى شيء قد يلوح في الأفق، قد يدركه المتلقي أو لا يدركه، أو يقوم في تشكيل حكايته الخاصة وفق ما قدم له من معطيات سردية في المشهد
الاستهلالي.
«لا بد أن شيئا ما يجري»، هذه الجملة التي وقف عندها النصّ وغيّب الكاتب تشي بالكثير عن النص أو الحكايات الغائبة التي لم تدون بعد، والتي تحتاج إلى تدوينها سواء من الصديق «عريبي» أو «الشحاذ»، الذي غدر به «الأعجف» أو الحبيبة «عواطف» أو الزوجة «المسخ»، أو ما كان يعيشه الأعجف من أحلام وأوهام بعد أن خنع للطغاة وترك معارضتهم لينعم بفتات «الخيانة الكاملة» الذي سمم هواء حياته ودفعه للبحث عن جلاس يصدقون أوهامه، ما هو الشيء الذي يجري؟ هذا هو السؤال الذي يبني عليه المتلقي نصه من الحكايا الجديدة التي اختفت مع اختفاء الكاتب، لتشكل خاتمة ابتدائية للمشهد السردي الذي يمكن أن ينفتح على مشاهد أخرى تغني النصّ في تفاصيله وتكشف عن
دلالات العتبة.