«ماذا فعلت يا أبي؟ أية جريمة اقترفتها بحقي وحق طفولتي وبراءتها وسعادتها»، «طرت وأبي إلى عاصمة» الوطن البديل «بالفعل في أحد أيام شهر آب، عندما حطت بنا الطائرة، اكتشفت كم كانت درجة الحرارة مرتفعة في العاصمة، حينها، تعب جهازي التنفسي وأُصبت بالربو».. ميساء زوجة ابيها كانت قاسية لحد الجرم معها «حيزبون لئيمة معي»، «حاربوني في جنسيتي الروسية وفي ديني، يتضاعف الألم ويكون موجعا اكثر عندما ترى وتسمع ان القريب منك استحل دمك وانتهك عرضك وفجر بيتك او اختطفك وباعك عبدا في سوق
النخاسة»..
تلك منتخبات من الخطاب السردي لرواية الوجه الآخر للضباب الذي فاضت فيها توجعات روزالين الشخصية الرئيسة في الرواية وألمها المستديم حينما ترى أبناء شعبها يباعون في سوق النخاسة.. إنه خلاصة نص، كان فيه المؤلف والراوي وروزالين يصوغون بناءه بما يسمى سرداً استرجاعياً أي خلق بصمة السيرة الذاتية للبطلة بدوران زمن شريط ذاكرتها بواقعية نكتشف فيها عدم مغادرة الكاتب للبناء التخيلي لسرديته، وفي الوقت ذاته نجاحه بتفعيل مخيلة القارئ وجعله يعيش أجواء موسكو وبطرسبرج
الباردة جداً.
الناقد الخطر
ثمة مفهوم يتداوله بعض القرّاء ومتابعي الشاشة العريضة، بأن «القارئ والمُشاهد يحتلان مرتبة الناقد الخطر» سواء في مجال القراءة او السينما والتلفزيون كونهما على تماس بحياتهم الاجتماعية والفكرية والثقافية والدينية
والسياسية.
فعلى سبيل المثال نجد في أرقى الأفلام عدداً كبيراً من الأخطاء التي يمكن ملاحظتها بسهولة، كأن يظهر بطل أحد الأفلام التاريخية مرتدياً ساعته، او طائرة تحلق في الجو في فيلم تدور أحداثه أيام الزحف المغولي، أو ظهور سيارة «جكسارة» موديل 2018 في فيلم يعرض احداثه أيام الحرب العالمية الثانية، كلها أخطاء غير مقصودة لكنها لن تفلت عن عين الرقيب الأول «المشاهد»، وكذلك لجان المهرجانات السينمائية، انها ستمتنع حتماً من قبوله في المشاركة، فكيف الحال بكتابة نص روائي مليء بالأبعاد السايكولوجية والاجتماعية والرغبات المختلفة والطموح والحب والكراهية المتمثلة بعدد الشخصيات المتباينة!
من هنا، تعد حكاية الرواية سجلاً «يُدقّق بحذر» لكيف يتعامل شخص وهمي مع الحياة؟..
فالمتلقي يبحث عن نص حكائي يحمل له في ثناياه، الفاعلية والتأثير، نحن كقرّاء نُقبل على قراءة الروايات لنلتمس فيها التوتر الذي يخلقه فينا الراوي او يدفعنا اليه من خلال موضوعته «الفكرة الأساسية» أو «الثيمة» التي هيّأها لنا بحدث وفق لحظة كان قد أسسها لنا على الورق ليريحنا ثم يقلقنا بين تدفق وانحسار يبعث على الإثارة والتنبيه والمتعة والحزن والشوق والمرح. ثم يسير بنا في أحداثه إلى أمام ونسير بعده طائعين مؤمنين بسرده المروي كإله حتى النهاية.
بنيان النص
في ما يتعلق برواية «الوجه الآخر للضباب»، نستكشف في بنيان النص بلاغة تماسكه وجماليات انسجام عناصره بحرفية فنية عالية، تعطي انطباعاً للقرّاء، محال ان يكون هذا المنجز السردي باكورة المؤلف في الروي اطلاقاً، إنه جدير بلقب الروائي وبفخر. يُستخلص من نصه ذي اللغة الأنيقة، الشفافة، مفردات مشاعر بفقد الأم، الضياع، انهزام، حنين الى الجذور، كبت، خبث، عفة، التردد في الانغمار بعلاقة حب أخرى بعد استشهاد علاقتها العاطفية التي ارتقت بمثالية عشق الوطن، لحبها الضابط الطيار، إرهاب، حيادية في المعتقد والدين، تكفير، قتل
على الهوية.
هذا التناسق يبرهن مدى إمكانية الكاتب وبراعته في خلق مقومات نجاح النص الروائي الذي يعتمد في طياته بين المذكرات والسرد والواقع المتخيل بدليل أنه حمّل روزالين بطلة الرواية المطلقة، جميع متعلقات الماضي والحاضر وخطاياه دونما غفران اجتماعي، لكنها كانت بمعنى البطولة إذ غيرت وبدلت حالات وتحكمت بمصيرها ومصائر بناتها الثلاث «بالتبني» إنْ سمح لي التعبير، وهذا أيضا يعد دليلاً قاطعاً على دمج نصفها الروسي الى نصفها السوري بإرادتها لتكون بالخلاصة عربية الفكر، سورية المعاناة والحب، ثم تبدأ من جديد، بقبول التواصل مع الدبلوماسي العربي.
انها البداية. «رواية الوجه الآخر للضباب» فاتحة خير للإبداع السردي العربي والعراقي، مطلع عام 2020، وحرصاً على أصالة المنجز السردي المتألق للروائي د.كريم صبح، وحفاظاً على سلامة أعماله المقبلة، ولأنها باكورته الرائعة ولكوني قارئاً، فسوف أعرض بعضاً من المقتطفات السردية التي كان على الكاتب
أن يتجنبها.