MMXX أو شخصية السنة الشاحبة

ثقافة 2020/09/21
...

  زعيم نصّار
للسّنةِ أبواب تلتهمُ الأشياء، 
في صباح الأربعاء، 
في أوله، حين هبَّ الهواءُ المريضُ أصفرَ غامضاً نحو البيوت، نحو غبطةِ الأيام التي تلهو مع أصابع النسيان، هبَّ الاصفرارُ من حنجرةِ السنةِ الشاحبة، وقد كانت تترصدُ الأصوات، زنّرتِ الثعالبَ الماكرة بضفافٍ منقوعةٍ بالدم. أنجزتْ كتابَ جريمتها، وأطلقتْ وحشاً ناعماً لا يُرى، كأنَّ المدينةَ في يدهِ عنقُ الرهينة، يتقدّمُ تارةً، وتارةً يرجعُ الى الوراء، تحت سيف مدِّها الجارف، امتلأَ العالم بالأسماءِ المبهمة، هناك يصطبغُ النهارُ بالأخطاء، هناك من يرسم لنفسه كوكباً، وعلى كتفه الثعبان، هناك الفحيح مخلوطاً بعسل المصير، مدينةٌ أبوابُها، المتاهة، والهاوية، ورعشة الفقدان، حياتُها تجري بموتاها، دكاكين للذكريات،
ومنازل للأشباح.
 
***
صوتٌ غامضٌ صمتي،
يا للدهشةِ الخرساء، يعطسُ مهندسُ الجروح، فتتكسّر الروحُ جرحاً، جرحاً، وينحني الفضاء، يتطايرُ الرذاذُ ليحطَّ الغراب بخفّةٍ، كل شيءٍ يهجسُ بموت الآخر، موت قبل أجله، موعد مع المرارة، هواءٌ فاسدٌ، هوسٌ، اختفتْ معه الأشياء، الخيط والشمعة، الزيتُ والشعلة، الخيول والقردة، اختفى كلُّ شيء تحت اشتباك الحاسّة الواهمة.
 
***
في المساء
في أوله،
 انتابهُ الذهول، كأنه يمتصُّ من ثديّ الليالي حليبَ الأرق، بدأ يحاورُ نفسَه، ارتدَّ وعيُّه إلى اللحظة، يدققُ في طريقِ الوقت، في بوصلةِ القصد، يملأُ فمَه بسرابِ التأويل، ثم يعودُ الى معاشرةِ الغفلة، لا يتعمدُ المرآة، يتحاشاها، لكنه يفعلُها دوماً، ويدهنُ
كلماته باللهب.
 
***
ما أحبُّه يتوارى، قبل أن ألتفتَ إليه، امددْ يمينكَ، دعني أرى كفيّكَ، دعني أرى اسمكَ محفوراً على تمثالِ العدم، هل كنتَ معي، أم على جذع الشجرة؟ ما افتشُّ عنه لا أراه، أتخذُ الطريقَ التي لم تصل اليه، تهربُ اقدامي خارج المعنى، نهارُ المتاهةِ يجعلُ من نفسي جمرةً، أشكُّ انها هي الباب، أظهرُ وأختفي، لم أعد للمقهى، وأنا أعلو في أعماق الوباء، أيــــّــــامي تخضرُّ على الأشجارِ اليابسةِ في العراء، أجنحتي
تجرحُ الهواء.
 
***
ما زالت الأفعى تخطفُ الثمرة، 
الخفافيشُ رياحُ الكاهن المجذوم، 
بين يديكَ الوميضُ، جمرة بين الشفتين، 
احترزْ غضَّ العينَ عن السبب، أنتَ تحاولُ ان تُلبسَ يومّكَ ضجةَ الخوف، في كأسكَ عطش الشكِّ، ترى حدود الانسياب، خلف نظارات التقصي، لا أدري كم ينبئكَ صدى التحري عن رطوبةِ الأحداث، لِمَ هذا الارتياب، وانتَ تداومُ الاغفاءةَ على
كرسي الحياة؟ سنتي التي سميّتُها مروّضتي، تمسكُ طرفَ الخيطِ المشدود بوجع العالم، بطريق المشهد الذي أصابني بالجنون.
 أنا مفتاحُكِ كوني معي، كم من الحوادث فيكِ ألهمتني الكلمات والأرق، كم هدرتِ من البريقِ في طيّات سريري، سهرتُ معكِ عبثاً منحنياً على الورق، خرجتُ من الغسق، صرتِ لي سفينةً، شممتُ دخان فكرتِكِ، ابحرتُ بين خطوط كفيّكِ، قرأتُكِ طيّةً، طيّةً، اصبحتُ بحّاركِ، عرّافَ الوحوش التي احتلتْ
حياتي كعاصفة.
 
***
أنتَ نصفي الناضج، اختلفنا في كلّ شيء، في الوضوح والغموض، في الظهور والغياب، في الهمة والسكينة حينما تكون واضحاً، يلمعُ بين عينيّ الالتباس، حينما تظهرُ، كنتُ أغيبُ، جعلتَ لي اجنحة تفرُّ، فرّتْ روحُنا، بعيداً عن تربةِ الاهداف، نحن الآن في البيت، ندوّرُ الوقتَ في استكانةِ الشاي، نرتشفُ سخونةَ اللقاء، أظنكَ لا تستكين، ستخترقُ دخانَ الحوار مع الكراسي الشاغرة، تحرقُ عيدانَ الدقائق، كي تُنضجَ فطائرَ الصرخة، تحاصرُكَ ساعةُ الأنباء كي تهشمَ صنمَ الانتظار، أو تغرز في صدرِ العادة شظايا الألم، كما ترى، أحملُ في يدي خمسةَ مفاتيح للسؤال، وكتاباً سميناً من الشكوك، أقفلُ بابَ الأجوبة، احترزُ عن ذلِّ السؤال، ينزلقُ على لساني الإرثُ كلّه، من نُطلي شفاهه بالسؤال؟ ونفرّغُ شكوكَنا في جيوبه سوف يُصبحُ ثرياً بالحيرة
وفقيراً بالحيلة.
 
***
أنتَ من تنكّرتَ للإشارة، لطيّاتِ الخرابِ وظلامه، أو ربما أردتَ أن تنقذني من المصير نفسه، حيث صفـّر شريانـُكَ لحناً عذباً، نفختَ لهباً يمرّ عبر الضحايا، بومةُ الليل ترفعُ انفرادنا نحو الهاويةِ، صوتُكَ يتهادى تاركاً وصيتنا، تتجسـّدُ بوجود القناعة، وأن نكونَ كاملين، أمام وردتنا الذابلة، هذه سنتنا الشاحبة، لنفتحَ باب الهبوط نحو الأبد، 
نغطسُ في الأعماق، 
أو في عمق الزمن،
اغطسْ عميقاً، 
أمامكَ كلّ النوافذ، 
اختفِ في ثقب الطفولة، في ثقب الدموع أو الضحك، أمامك كل هذا السقوط، اسقطْ على رأسك في الهاويةِ، أو في قمة الصمت، اسقطْ في اللّجة العميقة، مثل قارب يغرق، ولينطفئ السراج. 
 
***
على حبلِ حياتي نشرتُ الليالي، فلم أجد الليلة التي غبتُ فيها، أجفّفُ آلامي المتهادية، ألماً، ألماً، وأتدحرجُ نحو شعلتي، من قمةِ اليأس الى غابة الوحش، لأصل الى زيتونةٍ وحيدةٍ في العراء، تجعلُني أنسى الندم الذي فاضَ على السرير، بعد ان وصلنا الى ذروةِ السّموم. طافَتْ بيّ الوحوشُ، وأنا على موجتها، دفعتني الى ساحلِ المدينة، وهي على وشك الظلام، فتركت أيامي مغموسة في
بئر الغلطة. 
 
***
هذه الغلطةُ الشاحبة تُعدُّ مصيرَ اللهب، تجعلُ شخصية السنة بلا نصب تذكاري، بل بمخطوطةٍ قديمةٍ لشيخٍ أعمى، عاشق، وممتلئ بكلّ قوةٍ، غمرهُ الحكماءُ بالمعنى، وثابروا لنستذكرَهُ في حياةٍ أخرى، مختصرةٍ، متلاشيةٍ، لنتأملَ أصابعَه التي تُشبه أصابعَ الغيب، وهو يرمي الجمرات نحونا، جمرات الموت في الرياح. صار طرفٌ منّا في الهواء، والآخر في الظلام، ولم يزلْ يومنا واحداً، والنهايةُ هي البدايةُ، حتى انتشرَ الوباءُ في المياهِ، عميت عيون الأيام، فطارَ واحدٌ منّا، لا عين له ولا أثر. وبقيتُ في البيتِ أحاورُ نفسي، ومعي
وحشتي. أيلول 2020.