يذهب الشاعر محمد تركي النصار في مجموعته الشعرية الجديدة "سهواً على مصطبة الظلام" نحو ما توفره المناظر الطبيعية والحياة اليومية وحتى الوجود الإنساني من تأملات فلسفية لعالم يصنعه في سياق شعري لكتاب يضم 30 قصيدة، منها: (أشجار، طيور، عطور، جذور، أمراض، أملاح، عابر سبيل، عسل اسود، خيول، أكاذيب في محبرة، غروب، حتى الأبد، لا مبالاة، نسيان).
يتجول النصار بصحبة القارئ في الميثولوجيا الإغريقية ويستمد الوعي الذاتي من شخصياتها اليونانية التي تدفقت ملامحها ومواقفها في صور شعريّة تدمج الحاضر بماضٍ أسطوري، كما يقول في مقطع من قصيدة "سهو أورفيوس": (أُريدُ أنْ أصنع تمثالا، لا للموت؛ بل للرغبةِ فيه/ أُريدُ أنْ أطفئ النور، وأسدلَ الستار على عصر البهلواناتِ/ الخاسرين الذاهبين إلى تفاهةِ الخطواتِ والضحكِ الأصفر. / وحيدا أفرق بين العربة والطين،/ وألقي نظرة الوداع على حلم برومثيوس الإنسان. / ما الفتوةُ؛ لنخسر عشرين عاما في التعرُّفِ عليها/ وخمسةً وعشرينَ أخرى في رثائها؟ / وهل الأرضُ/ ترقصُ نيابة عنا لتحرر الجدران من أخطبوطاتنا؟/ من يدفع هذا الحشد الساقط كالتنين على ضوء عيني؟/ دعك خارج السور والحلبة،/ دعك خارج الفكر/ وإذا كان ممكنا اعترفي بعيدا عن الجميع، / اعترفي: من ذبح الوردةَ،/ هل الكائن أم حيلة الطبيعة/ وهل اللغةُ تُحرِّرُ الحقيقة؟/ اللبوة خارجَ الانشقاقاتِ تُربيها الشمس، / ولا يعرف هذا سوى الفضاء/ هذه هي الفضيحة./ فهل أ نت جدير بها أيها العبد ؟/ من الذي يدفع الرغبة لأن تستعير الوردة/ وتؤسس تاريخا مزيفا بينهما لا يعنيني؟/ لا الرغبة تحذف الشمس ولا الهاوية/ الرغبةُ تحذف الرغبة. / لا تاريخَ للرمل،/ للكينونة فقط، /للأعماق التي ترى رماد السطوح.. / وماذا بوسعي أن أفعل سوى أنْ أطرد ذباب الذكريات/ عن رأس هذه الأفعى/ التي تتلوى خارجَ الكأس؟).
كما ويربط الشاعر الليل برمزية العمى الذي لا ينتبه لقدرة الذات على خلق شيء خيالي، كما هو الحال في قصيدة "العمى" حين يقول: (الليل الذي يتدفق من مكان خفيّ/ يسترخي/ قرب جبال/ تحرس مصابيح عزلاء/ تتخفى خجلة هناك/ لا تحب الظهور/لكنها أحياناً/ وفي غفلة من الضجيج/ تخترق صمتنا الأبله/ وتلقي التحية علينا/ بنظرة خاطفة/ وتسرع/ تسرع/ هاربة/ خوف أن يصيبها سهم الكلام ./ الآن وبعد زمن طويل/ على اكتشاف وحشة هذه المصابيح،/ لماذا لم أعوّد نفسي/ على احترام رغباتها السرية/ لماذا لوثت أصابعي بدموعها/ وشوهتها بدمي الفاسق؟/ كم تكلفنا حماقاتنا متاهاتٍ/ وكم تستحثنا أدغالنا الوعرة/ للظهور والمكوث/ وسط سكان غرباء/ لا يمتّون بأية صلة/ لمصابيحنا العزلاء؟).
وفي قصيدة "إلى كافافي" ربما كان النصار يستدعي قُسطنطين بيير كافافي وهو مصري يوناني ومن أعظم شعراء اليونان المعاصرين، ليكشف عن العالم كمستودع للخيالات، حين يقول: (كانت الصور/ أشخاصاً/ يمشون في شوارع اللغة:/ موسيقيين إغريق/ ساسة مهرجين/ غلمانا يقرزمون/ ومهندسين ليسوا إسكندريين/ يتأملون المشهد/ بمحض الهواء جمعوني/ واحدا ذاهلا هناك/ ولم يفرقوا الحشود:/ لذلك لم يبقَ أمامي/ إلا التأتأة/ وقد صعقت/ لدرجة أنني تخيلت/ أنَّ المنتظرين/ كانوا برابرة أيضا).ويذكر أن محمد التركي من مواليد 1961، وعمل في العديد من المجالات الادبية والصحفية، كما وترجم عدة مقالات وقصائد، وله العديد من الاصدارات منها: (السائر من الأيام، تنافسني على الصحراء، حياة ثالثة، المعراج الأرضي، ما لا يحتمله النص، متى أصحو من هذه الحياة، فضاء قابل للمحو). وجاءت المجموعة الشعرية "سهواً على مصطبة الظلام" والصادرة حديثا عن منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق في (101) صفحة من القطع المتوسط.