خوذة الحرب

ثقافة 2020/09/22
...

خوذة الحرب
 
أستعير في مقالي هذا من الشاعر الإنكليزي - الأميركي تي اس اليوت في مطلع رائعته (أرض اليباب)، نيسان/ أبريل أقسى الشهور للحديث عن أقسى الشهور، غير أنه أيلول وليس نيسان وهو الذي يعنيني هنا. وربما لا تكون مصادفة أنَّ معركة مارن وهي المعركة الأولى في الحرب العالمية الأولى التي واجه فيها الجيش البريطاني القوات الألمانيَّة بعد أنْ اجتاحت بلجيكا ووصلت على بعد كيلومترات قليلة من العاصمة باريس وقد استمرت المعركة من 6 الى 12 أيلول 1914 حقق فيها البريطانيون نصراً ساحقاً عزز آمال نهاية الحرب التي لم تنته مع أعياد ميلاد العام ذاته كما كانوا يتمنون،
فيا لها من مصادفة عالية حطم فيها أيلول آمال مطلع القرن على الجبهة الغربية وآخر القرن على الجبهة الشرقية حيث انطلقت المناوشات الحدودية بين القوات الايرانية والعراقية منذ الرابع من أيلول 1980 لتصل الى أعلى درجاتها في الثاني والعشرين من أيلول معلنة بداية حرب شاملة كان أمل العراقيين فيها كبيراً أنْ تنتهي مع نهاية العام لكنها استمرت 8 سنوات علقت عليها صحيفة التايم الأميركية عام 1984 بعدد خاص وعلى غلافها بأنها الحرب التي بلا نهاية
(A War Without End). 
 
هكذا تبدأ الحكاية
من لم تلبسه خوذة هذا الخريف!
يسجل هذا السطر الذي كتبه الشاعر زعيم نصار مطلعاً لقصيدة “المصادفة العالية” المنشورة في اليوم السابع عام 1989، يسجل بشكل مذهل ومختلف سلوك الحرب تجاه الشعوب وليس العكس.
ويمكن لي القول إنه لو لم يكتب غير هذه الجملة الشعريَّة الدقيقة لكفته شعراً.
هذا الخريف صار كل خريف منذ الثاني والعشرين من شهر أيلول/ سبتمبر 1980. 
الذكرى التي ولدت معها، الغارة الأولى، الملجأ الأول، الخريف الأول الذي ألبست فيه الحرب خوذة للجميع، هل فرَّ أحد؟
هل أفلتت مدينة؟
هل انتهت الحرب حقاً لمن خاضها؟
هل غابت الحرب بعدها؟
يكتب الشاعر الويلزي ديفيد جونز، الذي عاش عقوداً بعد الحرب، أنَّ حياة الجندي طالت أم قصرت فهي لا تتعدى قوسي الحرب في كتابه المنشور عام 1937 بين قوسين، دخولها ولادته والخروج منها موت حتى لو نجت الأجساد.
 
أحياء صامتون
يقول خالد مطلك على مسافة أكثر من سبعين عاماً وأكثر من نصف الأرض، في نص نشرته جريدة المدى عام 2013: “وأخيرا قررت أنْ أموت هنا تحت ثلوج روسيا” متلبساً جندياً ناجياً من الحرب ولمَ لا فالجندي الخارج من الحرب لا يبحث عن أرض للحياة بل أرض مناسبة للموت “كجندي قديم.
كمحارب سابقٍ في السهول والجبال والأهوار يحق لي.
بعد أنْ تركتني الحرب أتنفس بلا سبب سنوات أخرى يحق لي.
أنْ أختار تلال الثلوج تلك.
لأرقد تحتها بأمان وفرح غامض”.
فهو لا يريد أنْ يتراصف قبره مع “شاهدة كئيبة بين قبور أصدقائي الذين أخذت الحروب بأيديهم وناموا هناك مفزوعين من ملاك الموت وشراسة 
الأسئلة”.
هكذا تترك الحرب ضحاياها أحياءً صامتين متلبسين بفرح النجاة الغامض أو  أمواتاً تلف قبورهم أسئلة شرسة عن فداحة التضحية.
يكتب ستيفين نايت مؤلف المسلسل الدرامي بيكي بلايندرز الذي بدأ عرضه العام 2013 على لسان شخصيته المحورية تومي شلبي ضابط الانفاق الذي نجا من الحرب “أنَّ لا أحد يعود منها” أي من الحرب، رداً على سؤال فتاة عن الفتى الذي غادر الى الحرب ولم يعد مشيرة إلى الشاب تومي.
نعم لا يعود أحد لا الرجال ولا النساء ولا البلاد.
غيرت الحروب خريطة  العالم وكذلك فعلت حرب الثمانينيات المنسية فقد غيرت العراق الدولة التي أُلبست خوذة الحرب عنوة وخرجت منها بثقوب كبرى في الرأس والقلب.
لماذا إذاً تنطلق هذه الحروب مراراً وتكراراً! تحدثت سابقاً عن الإطلاقة الأولى التي تسببت بإعلان الصراع المسلح للحرب العالمية الأولى وقد كانت إطلاقة طائشة لجندي في حراسة ليلية سجلت على أنها الإعلان الأول لاستعمال السلاح ولم تتوقف بعدها الإطلاقات إلا في الدقيقة 11 من الساعة 11 صباحاً يوم 11 /11 /1918، رغم أنَّ الاتفاق كان قبل هذا الوقت بأيام، إلا أنَّ الجنرالات قرروا التخلص من الذخيرة الى آخر لحظة من الحرب.
وللقارئ أنْ يتخيل سبل التخلص من الذخيرة وأولئك الذي كانوا ضحايا التخلص من الذخيرة.
ولو قلبنا كل الأدب الذي كتب عن الحرب سنجد ما يحذرنا كل الحذر من خوذة الحرب والصراعات المسلحة، لكنْ من يتخلص من أوهام الكتابة يدرك كما يقول اودن أنَّ كل ما كتب ضد الحرب لم يستطع تأخيرها دقيقة واحدة أو أن ينهيها قبل دقيقة واحدة، فلا دور للأدب في قيام الحرب أو إخمادها إلا التسجيل والتحذير ويبقى موضوع الكتابة كلها “في الحرب وبؤس الحرب الشعر والأدب في البؤس فقط” كما يقول ولفرد اوين الشاعر وقتيل الحرب العظيمة الذي قال إنه ليس للشاعر سوى أنْ يبلغ الحقيقة، تلك الحقيقة التي تبقى غير مكتشفة دائماً لأنها تموت مع الحرب وتحت خوذتها.
الخوذة التي صارت شارة هذا الجيل المحطم المنسي.
 
شعراء نساجون
الى الجانب الآخر من هؤلاء الشعراء المهمومين بنزع خوذة الحرب وكشف الحقيقة هنالك شعراء نساجون يصنعون لباس الحرب الخاكي كل يوم وآخرون يشتغلون بالحدادة، يصنعون خوذاً جديدة وهم يراقبون رؤوس أجيال الشباب تكبر أمامهم.
هؤلاء الكتاب كثر بل أكثر بكثير من النوع الأول، في الغالب الأكثر قوة والأعلى صوتاً والأصلب دعماً فهم صوت الحرب والسلطة والمصالح السياسيَّة، هؤلاء لا يقفون على أية ضفة من الحرب ولا على الأرض 
الحرام. 
يتخذون مكاناً بعيداً آمناً مناسباً لمشغل الخوذ وبدلات الخاكي والكلمات الخاكية كما يسميها عباس خضرالكاتب العراقي/ الألماني. 
لكن التاريخ يعلمنا أنَّ هؤلاء مثل أولئك لا ينجون من الحرب فبعض عظماء التحريض في الأمم أصابتهم خسارات الحرب عبر التاريخ فتراجعوا أو شككوا بمواقفهم الأولى فخبروا الحقيقة وتذوقوا مرارتها بعد خساراتها الأليمة، منهم نبي الإمبراطورية روديارد كبلنك الذي كتب محذراً بعد فقدان ولده عام 1918 واقفاً على قبور شهداء الحرب العالمية الأولى وعاملاً في لجنة الكومنويلث لمقابر الحرب “إنْ سألكم أحد كيف متم، قولوا كذب علينا الآباء”.
بعد أنْ كتب محرضاً في آب/ أغسطس 1914: “بكل ما نملك وما نحن عليه، لأجل مصير أبنائنا، خذوا الحرب واصمدوا فالمغول على الأبواب”.
ويقع كاتب فطحل آخر في الفخ ذاته ويندم، ففي سجال القرن عند الايرلنديين يقول ييتس هل أرسلت كلمات مسرحيتي تلك الرجال الثابتين تحت الرصاص الانكليزي حقاً!” ليجيبه الشاعر الايرلندي بول مولدون الحاصل على البلتزار وجائزة تي اس اليوت في الشعر والأستاذ في جامعة اكسفورد وبرنستون في ذكرى وفاة ييتس الثمانين: “لو أنَّ ييتس احتفظ بغطاء قلمه محكماً، لاحتفظنا بأولئك الشباب دافئين على أسرتهم”.
أقول دوماً إنَّ المحرضين في الثقافة والسياسة أهم بكثير من المثقفين والسياسيين أنفسهم فكلماتهم ستبقى تقفز من سجل التاريخ الدموي للحروب والصراعات ولو أنهم تريثوا واستمعوا لقول جوزيف برودسكي الحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 1987 أنَّ ليس بين الحرب والشعر غير حرفي ال p  و ال o ( politics/poetry) لكان أسلم لهم ولنا ولأبنائنا.