يبدو للوهلة الأولى وأنت تقرأ قصائد الشاعر حبيب السامر انها تتحد بمشتركات تفرضها طريقته في كتابته الشعر، غير أَنَّ تجاربه تختلف بقصدية شعرية من واحدة الى أخرى، وهذا ما يجعل البعض من النقاد يقرأه بتروٍ، ومن خلال متابعتي لتجاربه السابقة التي اطلعت عليها فقد أطلَّ علينا بتجربة جديدة ومجموعته (بابيون/ 2019).
تلك التجربة التي كشفت عن انفتاح في رؤيا الشاعر ومحاولة التوصل الى كوامن الاشياء من خلال حبك اللّغة الشعرية ومحاولة صياغة جمل تتمتع بعمق المعنى، والترصد الى حالات حساسة، ثمّة مشتركات طرحتها قصائد المجموعة، تنطوي على (الجذر المكاني، وحلم الطفولة، ووصف الحبيب، وحالات شعورية أخرى)، ولعل الجانب الأكثر انتباهة من بين كل هذه المشتركات، تتمثل في حالات الاسترجاع العاطفي/ الهاجسي، ومن خلاله يتوزع على الموضوعات الأخرى التي عنونها في القصائد
كافة .
في المجموعة الشعرية (بابيون)، ثمّة اباحة واضحة يستنهضها السامر، بغية المثول مع احساسه بالأشياء المحيطة أمام الآخر، ولعل هذه المسألة تكررت مرات عديدة، الاّ انّ لغة التنويع ومحاولة لبس القصيدة ثوباً جديداً، انطوت على كتابة قصيدة من نوع أكثر سلاسة، ربما تقترب الى ما يسمى بـ(السهل الممتنع).
حيث اللّغة المطواعة ظاهراً، والمعقدة من حيث التركيب والبناء، لذا، كانت هناك اختصارات في طريقة الوصف، وفي جعل القصيدة اكثر ملامسة في الاحساس المعبر عن (أنا راوية)، فالقصيدة عنده عبارة عن مشروع وجودي، وفي كثير من الأحيان تصبح عبارة عن قضية مصيرية في الكشف عن كوامنه، إذ ما تخفيه شعريته تظهره القراءة
التحليلية.
بمعنى.. كم نحتاج الى وقت للوصول الى قصدية خفية لم يعلنها حبيب السامر ..؟ هو ايضاً يبحث عنها، خاصة عندما كانت له تجربة سابقة في كتاب شعري كتب بطريقة مقاطع.
ككل، نلمس في المجموعة هذه العديد من التناظرات لقصائد تقترب عبر اسئلة ذاتية، واخرى عبر رؤيا متماهية مع الواقع، ففي القصائد (الأصدقاء، ليل لا يجيد تداول الحلم، وما تبقى من الطفولة، وهل هذا لك،هل يكفي؟، ومحاورات، وفوبيا متراكمة، وايتها الريح، وغيرها) امسكت بجدل ذاتي.. في حين القصائد (نافذة مغلقة على حلم، وسهرة للقمر على وجه شمعة، ولا أجيد النوم على وسادتك، وقصائد البساتين، وباختصار وادنى، والفراشة، وعذرا ايتها البلاد، وغيرها)، انطوت على انفتاح لغوي هائم في الرؤيا، وفي كلتا الحالتين يهيم بنا الشاعر من خلال شغفه الملموس بكل الاشياء التي استعارها في قصائده، لتقديم تجربة شعرية لها لون المعاصرة، فقصيدة حبيب السامر، قصيدة مراوغة تحاول الوصول الى هدف آخر عبر تكثيف الجهد اللّغوي وما تستفيضه لعبة الأغواء في بنية التجديد والمغايرة.
نقرأ في قصيدة (الأصدقاء) ما يكشف عن السؤال الذاتي المبهم (لماذا انت أكثر من واحد/ على مقدمات اصابعي)، يتناظره المقطع الأول في قصيدة (محاورات) :(وكيف بي وأنا أخسرك أيها النهر)، كذلك في المقطع السادس في قصيدة (فوبيا متراكمة) : (نطرق باب الضجة وحدنا/ لننعم بالصمت!!)، شعرية السؤال وثقافته في قصيدة الشاعر يولّد انغماراً عميقاً في اللّعب بتفاصيل اللّغة ورسم الصور الشعرية.. ونقرأ في قصيدة (نافذة مغلقة على الحلم): (الفسجة تتسع/ ملامح المدينة تتباعد، وتتشارف على الأنغلاق/ تتسع مثل بؤر الحدائق).
ونقرأ في قصيدة (سهرة للقمر على ضوء شمعة): (سأمكث بعيداً عن العالم/ لأجد قاربي الذي قلّني ذات يوم، وأكتفي بالهدوء)، وايضاً في قصيدة (الفراشة): (افتش عن الزرقة في لوننا المخبوء /عن محنة الفراشة/ في تراشق الضوء)، استنهاض الرؤيا هنا تشكل اصغاءً له اشتراطات عقلية، او بالاحرى ثمّة ما تتفلسف به القصيدة بغية التعبير عن قصدية صاغها الشاعر لتعكس فحوى الكتابة
عنده.
(بابيون)، مجموعة شعرية انطوت على كشف مكامن القصيدة المعاصرة، بكل ما تحتويه من لعبة أغواء ومحمولات لغوية وتمثيلات تعبيرية عن حالات برزنا قسم منها، ويظل الشاعر حبيب السامر يقدم تجاربه الشعرية بدلالات مختلفة
وواعية.