يمثل التجديد والتجريب سمة أساسية في الأجناس الأدبية وكل ذلك بالعلاقة مع التطور والتحديث والانتقال إلى مراحل جديدة في الحياة الإنسانية، وبهذا المعنى نفحص بعضا من التجارب عن السائد الشعري والنثري بوصفها تجارب وتمارين مفارقة للسائد في الأجناس الراسخة كالشعر والسرد، من هذه التنويعات التي تعمد إلى خلخلة قوانين الجنس الأدبي ما يطلق عليه قصيدة (الومضة) وهي القصيدة القصيرة المكتنزة بالمعاني والدلالات والإيحاءات، وقد استقت اسمها من معنى الوميض الذي تعرفه المعاجم العربية بأنه( اللمعان الخفيف) الذي يضيء ويكشف، من دون ان يعترضه عارض.
وهذا الشكل المكثف من الكتابة الشعرية لم يكن وليد الحاضر، بل انه من إنجازات القصيدة العربية في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، وتشير المصادر الى أن اول من كتبه واطلق عليه اسم ( قصيدة التوقيعة) هو الشاعر عز الدين المناصرة عام 1964، ثم اتخذت أسماء عديدة كان اشهرها (الومضة، التوقيعة، اللمحة، الحداثة الشعرية،) وهي القصيدة التي لا تتجاوز الجملة او السطر الشعري او العبارة المكثفة للتعبير عن لحظة شعرية مكتنزة بالدلالات والإيحاء والتأويل الذي يتجاوز عدد كلمات
القصيدة.
أمامنا تجربة في كتابة قصيدة (الومضة) للشاعر علي السالم، وهي تجربة أعطاها الشاعر تعريفا على غلاف مجموعته الشعرية بوصفها( قصائد قصيرة) في أعلى صفحة الغلاف، ثم أضاف إلى عنوان المجموعة تعريفا اخر بانها (قصائد
الومضة).
وقصائد الومضة هي قصائد قصيرة ومكثفة فعلا، لكنها تختلف عن القصائد القصيرة التي كتب الشاعر كثيرا منها ونشرها في المواقع الالكترونية، وهو ارتباك غير
مبرر .
تختص قصائد الومضة قي كتاب (مناسك الحب) على الأغلب بالتعبد في حضرة الحب، فالعنوان يضيء محتويات الكتاب كاشفا عن نزوع يجسد هذا التعبد ويثريه بالشعر، غير ان القراءة المتمعنة تكشف عن أن الومضات قد توجهت إلى ثيم ومفارقات وهجاء وتشبيهات طالت الطبيعة والإنسان، مما يعني ان هذه الومضات في تجسداتها هي نوع من ادامة الحب والدفاع عنه ضد التشويه والالغاء والقتل.
يبلغ عدد الومضات في هذه المجموعة الشعرية 400 ومضة موزعة بين مئة صفحة كل صفحة تحوي أربع ومضات وهو عدد كبير من الومضات، يتناقض مع حدة التكثيف التي الزم الشاعر نفسه على الالتزام بها وبكلمات
محسوبة.
نحاول في قراءتنا لمناسك الحب أن نتعرف على الومضات المتوهجة، التي يمنحها الشاعر دفق حياة، تجعلها قريبة من هذا النمط الشعري المكثف.
سواء في مناسك الحب او في التطلع الى جمال الطبيعة او هجاء من يريد ان يؤذيها.
نلاحظ بداية ان هذه الومضات اعتمدت الجملة الشعرية المكتنزة بالدالات من خلال الاشتغال على مفرداتها بجمع المتناقضات في تركيب دال او بناء مفارقة او مشهد مكثف يدعو الى التأمل وانفتاح افق
التأويل
فمن الومضات المكتملة التي توفرت فيها بلاغة التكثيف والإيحاء الذي يولد دلالات متنوعة من خلال هذا التكثيف والإيجاز هذه الومضات التي تختص بمكابدات الذات ومعاناتها في مناسك الحب :
لم يخطر ببال الناي/ إن قلبي مثله مثقب وشجي
وهي جملة شعرية تستثمر النفي المطلق والتوكيد في آن ضمن تركيب واحد في محاولة العبور من إشكالية هذا التناقض إلى تأويل يعلي المكابدة والشجن.
وفي الومضات الأخرى نلحظ بناء خاصا للجملة الشعرية، تتوفر فيها المفارقة أو المشهد المكثف او الصورة الدالة: أسرع من الرمح/ تخترق القلب تلك الكلمة.
هنا وظف الشاعر قوة الكلمة وسرعة تأثيرها في القلب الضعيف بقوة الرمح وصلابته وتوغله عميقا في القلب .
اما هذه الومضة فتتوفر على مفارقة تتجسد في اعلاء الغربة ذاتا حاضرة مجسدة من خلال استثمار الفعل( تثمل) الذي يختص بالإنسان دون غيره، / في الحانة تثمل أكثر/ مني غربتي/ وفي هذه الومضة صورة اتجمع بين البلاغة والفصاحة والآلام: جرحي بليغ / وفصيح/ يتقن كل الآلام. والمفارقة في هذه االومضة تنحو الى التجانس بين النزهة التي تتطلب صحبة وحضور جمهور وبين الوحدة المجردة من حضور الآخرين:
تعال أصحبك/ في نزهة/ أيها القلب الوحيد/ او/ أجوب المروج/ وانأ ابحث عن عطر/ زرعته
امرأة..
نلاحظ ان بعض الومضات على الرغم من كثافتها وإيجازها فإنها تحتاج إلى ترشيق ومن مثالها هذه الومضات :
حين انطفأت خطواتها/ في صمت الطريق( هذه جملة زائدة )/ اشتعلت روحي بالوحشة
او هذه الومضة: عرفت النهر على جرحي/ فانحسر منذهلا / وغير مجراه / ألاحظ أن ( وغير مجراه) زائدة.
وفي مناسك الحب ومضات حافظت على نثريتها دون الارتفاع إلى مرتبة الشعر، وهي ( ومضات ) اعتنت بالتكثيف دون الإضاءة والتوهج، من تلك الومضات قول الشاعر :
لا تحتفي بالقمامة/ إلا أسراب الذباب/ وهي عبارة احتفظت بنثريتها ومألوف معناها!!/ وأيضا هذا الهجاء/ مصاصو الدماء/ في أفلام الرعب/ يغادرون الشاشة ويتجولون في شوارعنا معممين
وهذا الهجاء المألوف:
أيها الانتحاري أنت تروم الغداء/ مع النبي فلماذا تحيل فاتورة الحساب إلى دمائنا / وأيضا / بسمل وحوقل قبل شفط أموال المسلمين/ المعمم الظريف
إن تجربة الشاعر علي السالم في كتابة الومضة الشعرية، هي تجربة جديدة على مشروعه الشعري تتطلب الإمعان في التحديق طويلا في ومضاته لتكون معبرة عن تطلعه في كتابة قصيدة مختلفة عن تجربته السابقة، فقد جرب كتابة القصيدة العمودية وقصيدتي التفعيلة والنثر، كما انه مطلع على الشعر الانكليزي وقد ترجم مجموعة نصوص من اللغة الانكليزية الى العربية بفعل تخصصه الأكاديمي.